الوزير (ع) في فرائد اللآلي.
قال (ع): فاسمع إلى كلام الإمام يحيى بن حمزة في هذين المهمين، رجوعاً منه إلى مقالة أهله، مع شائبة مجاملة.
[كلام الإمام يحيى في عدم بيعة علي لأبي بكر، وعدم ثبوت دليل على إمامة الثلاثة]
قال في كتابه مشكاة الأنوار، في جوابه على الفقيه أحمد بن علي بن شائع التهامي ما نصه:
قلتَ: هل علمنا أن علياً (ع) بايع أبا بكر بعد وقوفه عن البيعة أم لا؟
اعلم أن أمير المؤمنين (ع) ما اعتراه الريب ولا خالطه الشك.
إلى قوله: فلما توفي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وبكر الناس إلى سقيفة بني ساعدة للاشتوار، فتحقق أن الناس ليسوا في شيء من ذلك، وأنهم عازمون على العدول عنه (ع).
إلى قوله: وصبر كما قال (ع): وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهباً.
فتأخر عن مخالطة القوم؛ وكان بينهم ما كان من غير مشورة منه ولا بيعة، ولم يبلغنا أنه (ع) بايع أبا بكر في الأولة، ولا في الثانية، ولو وقع لنقل، وقد نُقِل ما هو أسهل منه؛ فلما لم يُنْقَلْ، عُلِمَ أنه غير واقع، بل الظاهر من حاله التوجّع، وهو ظاهر في كلامه.
إلى قوله: ولو كان للهوى ـ أي دخوله فيها بعد انقراض الثلاثة ـ لَتَرَكَهَا كما قال: ولولا حضور الحاضر، ووجوب الحجة لوجود الناصر، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها.
والأمر ظاهر.
هذا العباس ـ رضي الله عنه ـ عمّ رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ، قال: /75(2/75)
ما كنتُ أحسب أن الأمر منتقل .... عن هاشم ثم منها عن أبي حسنِ
أليس أول مَنْ صلى لقبلتكم .... وأعرف الناس بالمفروض والسننِ
فما الذي صدكم عنه لنعرفه .... ها إن بيعتكم من أول الفتنِ
وصدق ـ رضي الله عنه ـ فإنها الفتنة كل الفتنة، فاتحة الشرور إلى يوم القيامة.
[توجيه بعض أنظار الإمام يحيى بن حمزة(ع)]
[الفرق بين الخلافة والإمامة]
ثم قال الإمام يحيى (ع): وعلى الجملة، إن لنا به أسوة، ما نقول فيهم إلا كمقالته، لكنا نقول قولاً واضحاً: هم قد استبدوا بالخلافة، وقد قام البرهان على صحة إمامته (ع)، والخلافة عندنا غير الإمامة، ولم تقم دلالة على صحة إمامتهم، فهم خلفاء، وهو الإمام؛ وهذا قول بالغ يكفي في الإنصاف.
قال الإمام محمد بن عبدالله: ونعم ما قال الإمام من الفرق بين الإمامة والخلافة؛ لأن الإمامة مدارها على الدليل الشرعي ـ قلت: أي إمامة الحق، قال: ـ بخلاف الخلافة ـ قلت: أي التي لم تكن عن استخلاف صحيح، قال:ـ فإنها أعمّ، والأصل كل ما خلف الشيء سمي خليفة.
إلى قول الإمام محمد بن عبدالله (ع): فالمشائخ قد خلفوا النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ متعاقبين في مقامه بهذا الاعتبار، لا أنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ استخلفهم.
[أبو بكر الخالفة]
قال في النهاية، في مادة خلف: وفي حديث أبي بكر، أنه جاء أعرابي، فقال له: أنت خليفة رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ؟
قال: لا.
قال: فما أنت؟
قال: الخالفة بعده.
فقد أعرب أبو بكر عن نفسه بأنه غير خليفة ـ يعني مُسْتَخْلَفاً ـ بل أنه خالفة، بمعنى خلفه؛ وحينئذ قد يكون ذلك بحق وغير حق، بمجرد تَسَمِّيهِ خليفة.
وفي النهاية أيضاً: الخليفة من يقوم مقام الذاهب، ويسد مسده؛ والخالفة الذي لا غنى عنده، ولا خير فيه. /76(2/76)
قال: وإنما قال ذلك تواضعاً، وهضماً لنفسه، حين قال له: ياخليفة رسول الله، انتهى.
قال الإمام محمد: إن عنى ـ أي صاحب النهاية ـ أنه خلف رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - فلا شك أنه تَسَنَّم ذلك المقام، على تلك الحوادث العظام، والداء العُقام.
وإن عنى أنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ استخلفه، فالخصوم مقرّون بعدم الاستخلاف من النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ لأحد، ومن يدعي إيماءً أو أي دلالة على استخلافه لأبي بكر، فلم يمكن تصحيحه.
قلت: وشاهد حال أهل السقيفة، وصريح كلامهم المعلوم، في ذلك اليوم وغيره، يكذبه؛ فهي دعوى لغير مدع، بل لمنكر ما يدعيه؛ واحتجاج أبي بكر، ومن معه على الأنصار بالقرب من رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم - وأنهم شجرته، معلومٌ عند مَنْ له أدنى مُسكة في الأخبار؛ ولهذا قال الوصي ـ صلوات الله عليه ـ: احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة.
وقال مجيباً على أبي بكر:
فإن كنتَ بالقربى حججت خصيمَهم .... فغيرك أولى بالنبي وأقربُ
وإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورهم .... فكيف تليها والمشيرون غيّبُ؟
ولهذا لم يذهب إلى هذه الدعوى أحد، من أهل النظر والتحصيل.
قال الإمام محمد (ع): فلم يبقَ إلا أن أبا بكر الخالفة، كما أعرب عن نفسه.
وقول ابن الأثير: إنه قال ذلك هضماً وتواضعاً لاوجه له، وإذا حققت النظر فهو خَالِفة.
قلت: ولأن مثل هذا المقام مقام بيان، ولايجوز الهضم بخلاف الحق، /77(2/77)
وإنما يكون بالتعريض، وما لاصراحة فيه بغير الواقع؛ إذْ يكون من الكذب والكتمان.
قال الإمام: ثم قال الإمام يحيى: (دقيقة): اعلم أنا قد رمزنا قبل أن الخلافة غير الإمامة، وأن أمير المؤمنين (ع) إمام، وغيره خليفة، ووجه التفرقة بينهما: أن الإمامة شرعية قطعية، وهي إنما تثبت بملك شرعي، ووقوف على شرائط؛ فمتى ثبت ذلك صحت الإمامة قطعاً.
وأما الخلافة فثبوتها على جهة الاستيلاء والغلبة والقهر؛ ولهذا فإن معاوية ـ لعنه الله ـ صرّح باسم الخلافة، وليس بإمام، وهكذا خلفاء الدولتين، هم ملوك وخلفاء، وليسوا أئمة.
قلت: أي أئمة هدى.
قال الإمام يحيى: فلا جرم، صحّ منا إطلاق القول بأن أمير المؤمنين (ع) إمام وغيره خليفة، وصلى الله على محمد وآله، انتهى.
[كلام الإمام يحيى بن حمزة (ع) على عدم صحة حكم أبي بكر في فدك]
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وحكى الإمام عز الدين، عن الإمام يحيى (ع)، نقلاً من كتابه المسمى التحقيق في الإكفار والتفسيق، ما نصه: والمختار عندنا أمران:
الأول: أن الذي ادعت فاطمة ـ عليها السلام ـ كان حقاً.
ثم قال ما حاصله: إنه شَهد لها أمير المؤمنين (ع)، وأم أيمن، فقال أبو بكر: رجل مع رجل، أو امرأة مع امرأة.
ثم قال أبو بكر: إن الله إذا أطعم نبيه طعمة فهي للخليفة من بعده.
فلما أقر بالملك لرسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وإقراره مقبول، قالت: ويحك يا ابن أبي قحافة! ترث أباك ولا أرث أبي.
فاحتجّ بالخبر.
ثم /78(2/78)
ذكر إعراضها عنه، ورجوعها إلى قبر أبيها ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وتمثلها بالأبيات المشهورة:
قد كان بعدك أنباء وهينمة .... لو كنتَ حاضرها لم تَكْثُرِ الخُطَبُ
...إلخ.
وهذه المناظرة ظاهرة لايمكن إنكارها.
ثم قال: الأمر الثاني: أنها صادقة فيما ادعته؛ لأن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ بشرها بالجنة، وأن منزلها ومنزل أمير المؤمنين حذاء منزله.
وساق أحاديث في شأنها وكمالها، وأحاديث ((فاطمة مني، يريبني ما يريبها، ويؤذيني ما يؤذيها))، فكيف لاتكون صادقة في تلك الدعوى، وقد شهد بصدقها أمير المؤمنين، ولا يشهد إلا بالحق، ولا يقول إلا الحق؟!
انتهى باختصار.
قلت: وهذا تصريح بعصمة الوصي، وحجية قوله ـ صلوات الله عليه ـ كما قضت به النصوص النبوية، والحمد لله.
قال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وقد روي عن الإمام زيد بن علي، وقد سأله سائل عن فاطمة بعد أبيها ـ صلوات الله عليهم ـ وكيف كان حالها مع القوم؟
فأجاب (ع): أما سمعت قول الذي عبر عمّا في نفسها بقوله:
غداة تنادي يابتا ما تمزقت .... ثيابك حتى أزمع القوم بالغدرِ
وحتى ارتُكِبْنا بالمذلّة والأذى .... وليس لأحرار على الذلّ من صبرِ
ولقد أجاد الشاعر، وصدق.
فهو رجوع منه عما في الشامل.
قلت: يعني من تصويب الحكم.
قال: فهذا رجوع إلى قول أسلافه الطاهرين.
قلت: وهذا يدل على اطلاع الإمام على تأخر كلام الإمام يحيى (ع) هذا.
وقال الإمام محمد بن عبدالله (ع): وذلك ـ أي تصحيح حكم /79(2/79)