النهمي البهلولي الأبناوي، القاضي العلامة، شمس الدين؛ كان قديماً يرى رأي التطريف، حتى وصل الفقيه زيد بن الحسن البيهقي، في سنة خمسمائة، فراجعه وقرأ عليه، فرجع إلى مذهب الزيدية المخترعة، وقرأ على الفقيه زيد، وله منه إجازة عامة.
[ذكر مسموعات القاضي جعفر والكتب التي سمعها في العراق على الكني، وغيرها من مسموعاته، وتلامذته]
ولما أراد زيد بن الحسن الرجوع إلى العراق، رحل معه القاضي جعفر، لتمام السماع، فمات زيد بن الحسن بتهامة، فرحل القاضي إلى العراق، إلى حضرة العلامة أحمد بن أبي الحسن الكني، فقرأ عليه كتب الأئمة ومنصوصاتهم.
ثم ساق ما تقدم في سند الزيادات من كلام الكني، وقال: ومما سمع على الكني: مجموع زيد بن علي، وذخيرة الإيمان مسند السمان، ونظام الفوائد لقاضي القضاة، وكتاب الرياض للحمدوني، وفوائد قاضي القضاة للكلابي، وأحاديث عبد الوهاب، وكتاب الأنوار للمرشد بالله، وأماليه الخميسية، وخطبة الوداع، وأمالي المؤيد بالله، وأمالي السيد أبي طالب، والأحاديث الزمخشرية، والأحاديث المنتقاة، والأربعين في فضائل أمير المؤمنين للصفار، وقطعة من تفسير أبي عبيد في الغريب، وناوله باقي الكتاب، وأجازه؛ وغير ذلك مما ذكرناه في ترجمة الكني كما تقدم.
ثم سَمِعَ على الشيخ العدل الحسن بن علي بن ملاعب الأسدي أمالي أحمد بن عيسى، والأربعين للنرسي، والأربعين للسيلقي، وكتاب الشهاب للقضاعي، وكتاب الذكر لمحمد بن منصور، وكتاب المقنع المختصر من الجامع الكافي، والرسالة المشهورة لزيد بن علي.
وسمع جلاء الأبصار للحاكم بن كرامة وغيرها من كتبه على السيد عُلَي بن عيسى بن وهّاس الحسني، وأجازه إجازة عامة من جملة ذلك: الكشاف لجار /35(2/35)
الله الزمخشري.
وسمع بعض كتاب التهذيب للحاكم ابن كرامة أيضاً على أبي جعفر الديلمي، عن ولد الحاكم المحسن، عن أبيه، وأجازه في بقية كتب الحاكم..
.إلى قوله: وسمع على الزاهد مسعود الغزنوي بالكوفة، أحاديثَ في فضل اليمن، وسمع بمكة كتاب المواقف الخمسين على أبي المظفر العلكي، وسمع خبر عابد بني إسرائيل على أبي الفضل عبدالله بن أبي الفتح.
قال: وسيأتي إسنادها إلى مؤلفها ـ إن شاء الله تعالى ـ في ترجمة كل واحد من مشائخه.
قال: وله تلامذة كثير، منهم: حمزة بن سليمان، والد المنصور بالله عبدالله بن حمزة، والأميران الكبيران: بدر الدين وشمسه، محمد ويحيى، ابنا أحمد بن يحيى بن يحيى، والشيخ الحسن بن محمد الرصاص، والشيخ محيي الدين حميد بن أحمد القرشي، وسليمان بن ناصر صاحب شمس الشريعة، وأحمد بن مسعود، وعبدالله ومحمد، ابنا حمزة بن أبي النجم، وحنظلة بن شبعان، وأحمد بن الحسين الأكوع، وغيره ممن ذكره القاضي ـ أي صاحب مطلع البدور ـ وغيره.
قال: وكان القاضي ثبتاً، ورعاً، متبحراً في الرواية.
[شدة تحرجه في الرواية]
قال المنصور بالله عبدالله بن حمزة: ولما وصل القاضي جعفر من العراق بالعلوم، التي لم يصل بها سواه، من الأصول والفروع، والمعقول والمسموع، وعلوم القرآن العظيم، والأخبار الجمة عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ وعن فضلاء الأئمة من العترة، وسائر العلماء.
وكان من جملة هذه الأخبار، أخبار في صفة الجنة والنار، مروية عن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ فطلب جماعة من الإخوان قراءتها عليه، وروايتها، فامتنع من ذلك في مجالس الأخبار، فألحّ عليه منهم مَنْ ألحّ، فذكر أنه قرأها على شيخ له بمكة، وكان شيخه هذا له يد طائلة في علم العربية، وحكى عنه أنه يُصْلِحُ ما يجد في الأخبار من اللحن، ويعتلّ /36(2/36)
أن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ كان لا يَلْحَن، فعاب ذلك عليه شيخنا القاضي، وامتنع من الرواية، وقال: إني لا آمن أن يكون في هذه الأخبار شيء أصلحه على خلاف ما رواه عن شيوخه، انتهى.
وقال القاضي أحمد في مطلع البدور: هو القاضي الحجة، شيخ الإسلام، ناصر الملة، وارث علوم الأئمة الأطهرين، شيخ الزيدية، ومتكلمهم، ومحدثهم، وعالم الزيدية، ومخترعها، وإمامها، انقطع إلى الزيدية، ورحل إلى العراق، وكان من أعضاد الإمام أحمد بن سليمان، وأنصاره؛ وطالما ذكرهما الإمام المنصور بالله، واحتج بكلامهما؛ فيقول: قال الإمام والعالم، ذكر الإمام والعالم، أفتى بذلك الإمام والعالم.
وقد قيل: على أهل اليمن نعمتان في الإسلام والإرشاد إلى مذهب الأئمة (ع): الأولى: للهادي (ع).
والثانية: للقاضي جعفر.
فإن الهادي (ع) استنقذهم من الباطنية، والجبر، والتشبيه؛ والقاضي له العناية العظمى في إبطال مذهب التطريف، ونصرة البيت النبوي الشريف.
قلت: لاريب أن للقاضي ـ رضوان الله عليه ـ نعمة عظمى، ومنّة كبرى؛ ولكن نعمته مترتبة على النعمة الأولى، فإن النعمة السابقة، التي لشيخه ومنقذه، زيد بن الحسن، فرع من فروع نعمة إمام الأئمة، وهادي الأمة.
وأيضاً، لم تستأصل فتنة هذه الفرقة الغوية، وبدعة هذه الطائفة الطبيعية المطرفية، إلا بسيفي الإمامين الأعظمين: الإمام المتوكل على الرحمن، أحمد بن سليمان، والإمام الحجة، عبدالله بن حمزة (ع)، وعلمهما، وجهادهما، واجتهادهما، وعظم أثرهما في الإسلام.
ورسالة عالم المطرفية إلى بني العباس، في شأن الإمام المنصور بالله (ع) معلومة. /37(2/37)
[اتفاقه بالإمام أحمد بن سليمان، وما دار بينهما في شأن المطرفية]
قال في مطلع البدور: وكان ابتداء وقفته ـ أي القاضي جعفر ـ للإمام ـ أي المتوكل على الله (ع) ـ بذمار، وقت مخرجه إلى زبيد، فاعتذر إليه في أمور كانت منه مع المطرفية، فيما سبق؛ ولما وصل إلى العراق تبين له أنه على غير شيء، فعذره الإمام (ع)، وجعله في حلّ، وقال له: هل علمت يا قاضي أحداً ممن لقيته بالعراق يقول شيئاً مما تقوله المطرفية، وتعتقده، أو يعمل به، أو وجدت ذلك في كتاب؟
قال: لا.
قال: فإنه يجب عليك أن تردهم عن جهلهم، وتنكر بدعهم؛ فإن النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ يقول: ((إذا ظهرت البدع من بعدي، فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)).
فقال القاضي: قد عرفت ما تقول، ولكن القوم كثير، وقد صاروا ملأ يمننا هذا؛ ولو أكثر عليهم لرموني عن قوس واحدة، وأنت يامولانا تقرب، وتبعد، وإني أخافهم، ولاطاقة لي بهم.
فوقع كلام الإمام في أذن القاضي وهو ممن علم وعمل.
ثم حكى ما جرى بينهم وبينه، وأنه قال لهم بعد أن تحزبوا عليه: هلموا إلى المناظرة فأُظهِرَ ما فيكم، وأَظهِروا مافيَّ بين يدي حاكم.
فقالوا: ومن الحاكم؟
فقال: إمام الزمان.
فأبوا ذلك..
.إلى قوله: قال مصنف سيرة الإمام أحمد بن سليمان (ع): فلم يسمعوا كلام القاضي جعفر، بل آذوه، وقام في وجهه رجلان باطنيان: أحدهما مسلم اللحجي، من أهل شظب، والآخر يقال له: يحيى بن حسين، يلقب الفقيه؛ فآذياه، وسباه، فعاد إلى سناع، ومعه جماعة من الأشراف، منهم: الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى، وغيره من أعيان السادة الهدويين، والحمزيين، والقاسميين، ومن أعيان الشيعة عدة.
وكان للقاضي في مسجد سناع مدرسة، فعارضه المطرفية بمدرسة أخرى في جانب المسجد، فقام بعض/38(2/38)
الأشراف فأطفأ سراجهم، فقاموا فأطفأوا مصباح القاضي..
.إلى قوله: وكان القاضي ـ رحمه الله ـ ضرب لهم مثلاً، فقال: مَثَلهم، ومَثَلي كمثل قوم عراة في مسجد في ظلمة، وأصواتهم مرتفعة بالقرآن والصلاة، وهم يصلون عراة إلى غير قبلة، فدخل عليهم رجل بمصباح، فوجدهم على أقبح حال، عراة؛ فأجمعوا على الذي دخل بالمصباح يلعنونه، ويسبونه، فقال: ليس لي جرم غير أني دخلتُ بالمصباح، فقالوا: بلى إنك أظهرت شيئاً كنا نكتُمه.
وآل الكلام إلى أن الإمام (ع) بعد أن بلغه ما لقي القاضي من المطرفية، قال: قد وجب علينا نصرته، فلم يزل يطوف البلاد، وهو ينهى الناس عن مذهبهم، ويحذرهم منهم، حتى أثر ذلك مع أكثر الناس؛ انتهى المراد.
وعلى الجملة، فقد طهّر الله اليمن ـ بحمد الله تعالى ـ من هذه البدعة، وغيرها من مضلات الفتن، بحميد سعي الأئمة الهداة، من آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ وعلماء شيعتهم المهتدين بهديهم ـ رضي الله عنهم ـ ونشر الله الحق، وأظهر الحجج في كل زمان، وعد الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسلَّم ـ: ((إني تارك فيكم))، ((أهل بيتي أمان لأهل الأرض))، ((إن عند كل بدعة...)) الأخبار.
[الكتب التي وصلت إلى اليمن قبل مقدم القاضي جعفر إليه من العراق]
نعم، وقدم القاضي شمس الدين ـ رضوان الله عليه ـ بكتب الأئمة من العراق كما سبق، وقد كان وصل إلى اليمن قبله منها الكتب التي صحح روايتها للقاضي جعفر، ومن معه من العلماء ـ رضي الله عنهم ـ الإمامُ المتوكل على الله أحمد بن سليمان، منها: شرح التجريد للإمام المؤيد بالله، وشرح القاضي زيد ـ رضي الله عنه ـ عن شيخه السيد الفاضل الإمام الحسن بن محمد، من ولد المرتضى (ع).
وقد أفاد العلماء أن الإمام المتوكل على الله أخذ كتب العراق، عن السيد الإمام /39(2/39)