والذين اهتدوا زادهم هدى؛ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً؛ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا؛ وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حَيي عن بينة وإن الله لسميع عليم.
[وجوب التمسك بالثقلين]
وقد أقام الله ـ جل جلاله ـ حججه على هذه الأمة، كما أقامها على الأمم؛ فكان مما أوجب عليهم وحتم، وأمرهم به وألزم، وافترضه عليهم وحكم، في محكم كتابه الأكبر، وعلى لسان رسوله سيّد البشر - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -؛ المأخوذ ميثاقه في منزلات السور، الاعتصام ُ بحبله، والاستمساك بعترة نبيه وآل رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - الهادين إلى سبيله، الحاملين لتنزيله، الحافظين لقيله، العاملين بمحكمه وتأويله، ومجمله وتفصيله، الذين سيدهم، ومقدمهم وإمامهم، ولي المؤمنين، ومولى المسلمين، سيد الأوصياء، وإمام الأولياء، وأخو خاتم الأنبياء، - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -.
وقد أعلا الله شأنهم، وأعلن برهانهم، بما شهد به كتاب الله وسنة رسوله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - مما أجمعت عليه الأمة على اختلاف أهوائها، وافتراق آرائها، فخُرِّجَ في جميع دواوين الإسلام، وعلم به الخاص والعام، ولزمت به الحجة جميع الأنام؛ امتلأت به الأسفار، واشتهر اشتهار الشمس رابعة النهار، فلا يستطاع دفعه برد ولاإنكار؛ وسيمر بك في كتابنا هذا ـ إن شاء الله تعالى ـ على سبيل الاختصار، ما فيه تذكرة لأولي الأبصار، وبلاغ لذوي الاعتبار، والوارد فيهم عن الله ـ سبحانه ـ وعلى لسان رسوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ على أعظم البيان، وأبلغ البرهان. /36(1/36)
وأعظمه وأبلغه مالإمام المتقين، أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وأخي سيد المرسلين ـ عليهم صلوات رب العالمين ـ وهو مالا يُستطاع حصره، ولايُطاق إحصاؤه وذكره، فما زال إمام المرسلين، وخاتم النبيين - صلوات الله عليهم وسلامه - يبين للأمة مقامه في كل مقام، ويقرر لهم حجته عند الله وعند رسوله من ابتداء الدعوة النبوية إلى آخر الأيام؛ فأما المقامات العظام، التي خطب بها الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ لإبلاغ الحجة أهل الإسلام، فإن أكثرها من أعلام نبوة سيد الأنام، ومعجزاته المخبرة بالغيوب على مرور الأعوام.
[تواتر خبر الموالاة وهو خبر الغدير ومخرجوه]
كالمقام الشهير، الذي قام به الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ يوم الغدير، في ذلك الجم الغفير، والجمع الكثير؛ لتأكيد حُجته، عام حَجته، ووداعه لأمته، موصياً لهم بالثقلين، مستخلفاً عليهم الخليفتين، مبيناً لهم اقتراب إجابته لداعي الله، وتلبيته لوعد الله، مقرراً لهم بحجة الله، قائلاً لهم: ((أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟)).
قالوا: بلى يارسول الله.
فقال: ((اللهم اشهد)) ثم قال: ((اللهم اشهد)).
ثم قال: ((فمن كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره)).
وفي هذا اليوم أنزل الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة:3]، وستأتي الطرق في ذلك.
ولا ينافي هذا مارواه بعضهم ـ أي العامة ـ من نزول الآية في يوم عرفة، فالجمع ممكن مع الصحة، بتكرر النزول كما نصوا على ذلك في غيرها من الآي، كآية التطهير؛ ذكره الطبري وغيره.
قال إمام اليمن، الهادي إلى الحق القويم، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ـ عليهم أزكى التحيات والتسليم ـ في الأحكام: وفيه أنزل الله على رسوله بغدير خمّ: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة:67]؛ وساق الخبر بتمامه /37(1/37)
وخبر الموالاة معلوم من ضرورة الدين، متواتر عند علماء المسلمين، فمنكره من الجاحدين.
أما آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ فلا كلام في إجماعهم عليه.
قال الإمام الحجة، المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع)، في الشافي: هذا حديث الغدير ظهر ظهور الشمس، واشتهر اشتهار الصلوات الخمس.
ومن كلامه (ع): ورفع الحديث مفرعاً إلى مائة من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ منهم العشرة، ومتن الحديث فيها واحد، ومعناه واحد، وفيه زيادات نافعة، في أول الحديث وآخره، وسلك فيه اثنتي عشرة طريقاً ـ يعني بهذا صاحب المناقب ـ.
قال الإمام (ع): بعضها يؤدي إلى غير ما أدى إليه صاحبه من أسماء الرجال، المتصلين بالنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
وقد ذكر محمد بن جرير صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمس وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سماه كتاب الولاية.
وذكر أبو العباس، أحمد بن محمد بن عقدة، خبر يوم الغدير، وأفرد له كتاباً، وطرقه من مائة وخمس طرق؛ ولاشك في بلوغه حد التواتر، ولم نعلم خلافاً ممن يُعتد به من الأمة،.....إلى آخر كلامه (ع).
وكلام أئمة آل محمد ـ صلوات الله عليهم ـ في هذا المقام الشريف وغيره معلوم، في جميع مؤلفاتهم في هذا الشأن.
وقد رواه السيد الإمام، الحسين بن الإمام (ع) في الهداية، عن ثمانية وثلاثين صحابياً بأسمائهم، غير الجملة؛ كلها من غير طرق أهل البيت (ع).
وقال السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير: إن خبر الغدير يروى بمائة وثلاث وخمسين طريقاً. انتهى.
وأما غيرهم، فقد أجمع على تواتره حفاظ جميع الطوائف، وقامت به وبأمثاله حجة الله على كل موالف ومخالف؛ وقد قال الذهبي: بهرتني طرقه، فقطعت بوقوعه. انتهى.
وعده السيوطي في الأحاديث المتواترة.
وقال الغزالي في كتابه سر العالمين: لكن أسفرت الحجة وجهها، وأجمع الجماهير، على خطبة يوم الغدير؛ وذكر الحديث.
واعترف ابن حجر في صواعقه، أنه رواه ثلاثون صحابياً.
وذكره ابن/38(/)
حجر العسقلاني في تخريجه أحاديث الكشاف، عن سبعة وعشرين صحابياً.
ثم قال: وآخرون؛ كل منهم يذكر أسماء أفرادهم، غير الجملة مثل: اثني عشر، ثلاثة عشر، جمع من الصحابة، ثلاثين رجلاً.
وقال المقبلي فيه في أبحاثه: فإن كان هذا معلوماً، وإلا فما في الدنيا معلوم. انتهى.
ولو استوفيت من صرح من العلماء بتواتره، لطال المقام.
وعلى الجملة إن خبر الغدير ومقدماته وما ورد على نهجه مما يفيد الولاية في ذلك المقام وغيره، لاتحيط به الأسفار، ولا تستوعبه المؤلفات الكبار؛ وقد ألفت علماء الإسلام في ذلك الباب مؤلفات جامعة؛ ومن أعمها جمعاً، وأعظمها نفعاً، من المؤلفات الحافلة بروايات آل محمد (ع) وشيعتهم ـ رضي الله عنهم ـ ومخالفيهم ـ تولى الله مكافأتهم ـ: كتبُ الإمام الحجة، عبدالله بن حمزة، كالشافي، والرسالة النافعة، والناصحة؛ والأنوار للإمام الأوحد الحسن بن بدر الدين محمد بن أحمد، وينابيع النصيحة لأخيه الحافظ الأمير الناطق بالحق الحسين بن محمد، واعتصام الإمام الأجل، المنصور بالله عز وجل، القاسم بن محمد؛ وشرح الغاية، لولده إمام التحقيق، ونبراس التدقيق، الحسين بن الإمام؛ ودلائل السبل الأربعة، لحفيده جمال آل محمد، علي بن عبدالله بن القاسم؛ وتفريج الكروب، لإسحاق بن يوسف بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم؛ وتخريج الشافي، لعلامة العصر الأوحد، نجم آل محمد، الحسن بن الحسين الحوثي ـ نفع الله تعالى بعلومه ورضي عنه ـ وغيرها من مؤلفات السابقين واللاحقين، من الآل (ع) وغيرهم؛ فهي واسعة العدد، طافحة المدد؛ وقد جمعت هذه المؤلفات ـ بحمد الله ـ فأوعت، وعمّت فأغنت؛ ونتبرك بذكر شيء من الكلمات النبوية، صلوات الله وسلامه على صاحبها وعلى آله.
فأقول ـ وبالله التوفيق ـ: قد تقدمت رواية إمام اليمن، الهادي إلى أقوم سنن، في /39(1/39)
الأحكام (ع).
وفي تفسير آل محمد من جوابات نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم ـ صلوات الله عليهم ـ: وسألت عن قول النبي - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -: ((من كنت مولاه فعلي مولاه))، ((ومن كنتُ وليّه فعلي وليّه))...إلخ كلامه؛ وذكر الرواية في أن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة:3]،...الآية، نزلت في حجة الوداع؛ قال ـ أي نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم ـ: والحج آخر مانزلت فريضته.انتهى.
وأخرج الإمام المؤيد بالله (ع) في أماليه، بسنده إلى كامل أهل البيت، عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي ـ صلوات الله عليهم ـ قال: قال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ يوم غدير خم: ((أليس الله عز وجل يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ }؟[الأحزاب:6])).
قالوا: بلى، يارسول الله.
فأخذ بيد علي (ع) فرفعها حتى رؤي بياض إبطيهما، فقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره)).
فأتاه الناس يهنئونه، فقالوا: هنيئاً لك ياابن أبي طالب؛ أمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
وأخرج فيها ـ أيضاً ـ من طريق الإمام الناصر للحق، الحسن بن علي ووالده علي بن الحسن، مسنداً إلى أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (ع) قال: قيل لجعفر بن محمد: ما أراد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ بقوله يوم غدير خم: ((من كنت مولاه فعلي مولاه؛ اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه))؟
فاستوى جعفر بن محمد قاعداً، ثم قال: سئل عنها - والله - رسول الله - صلى /40(1/40)