وإحدى رجليه على الأخرى، فوضعتها بين يديه، وأخبرته أن أبي بعث بها إليه، فَسُرَّ بها، وقال: ((ياغلام ادع لي علياً))، وقال: ((يابلال ائتني بسفرة))، فأتاه بها، فوضع العناق عليها.
ثم قال: ((انظر مَنْ في المسجد من المسلمين)).
فقال: ثمانية عشر نفراً.
قال: ((أدخلهم)).
فلما دخلوا، قال: ((كلوا ولا تنهشوا لها عظماً)).
فأكلوا حتى صدروا ثم نهضوا.
ثم قال: ((يابلال ائت فاطمة)).
ثم قسم في نسائه قُبضة قُبضة، فلما فرغ، ضرب وركها، وقال: ((قومي بإذن الله تعالى)).
فنهضت تبادر الباب، واتبعها الغلام، فسبقته إلى المنزل، فدخل الغلام، وأبوه يقول: كأنها عناقنا التي ذبحناها.
فقالت امرأته: لعلها لبعض الحي.
فقال الغلام: لاوالله، ماهي لأحد، وإنها لعناقكم، صنع بها رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ كذا.
إلى غير ذلك.
[من الينابيع في إخباره بالمغيبات]
وقال (ع): وأما إخباره عن الغيوب الماضية، فنحو إخباره بقصة آدم وحواء وأولادهما، ونوح، وأخبار سائر الأنبياء المفصلة في القرآن، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ونحو أخبار أهل الكتابين، ونشر فضائحهم، وأفعالهم.
وأما إخباره عن الغيوب المستقبلة، فنحو إخباره بأسرار المنافقين، وما قد عزموا على فعله في المستقبل، وإخباره بأن اليهود لايتمنون الموت، في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } [البقرة:95]، وكان الأمر في ذلك على ما أخبر.
ونحو إخباره بهزيمة بدر قبل وقتها، في قوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} [القمر]، وكان الأمر في ذلك على ما أخبر.
ونحو إخباره بقصة مُلك الروم وفارس، في قوله: {الم(1)غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم].
ونحو قوله، /530(1/530)
للزبير بن العوام: ((إنك تقاتل علياً وأنت له ظالم))؛ وقد ذكّره ذلك أمير المؤمنين علي (ع) يوم الجمل فعدل عن القتال.
ونحو قوله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، لعمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ: ((تقتلك الفئة الباغية))، فقتله أصحاب معاوية.
قال: ونحو وَعْده لأصحابه بكنوز كسرى وقيصر، وقوله لسراقة بن جعشم وقد نظر إلى ذراعيه: ((كأني بك، وقد لبست سواري كسرى))، وكان سراقة أشعر الذراعين دقيقهما.
فلما افتتح المسلمون خزائن كسرى على عهد عمر، حُمِلَ المال فوضع في المسجد، فنظر عمر منظراً لم يَرَ مثله، والذهب والياقوت والزبرجد واللآلي تتلألأ.
فقال: أين سراقة بن جعشم؟
فأتي به، فقال له عمر: البس السوارين.
وهما سوارا كسرى.
ففعل سراقة، فكان ذلك آية ظاهرة.
ونحو قوله لسلمان الفارسي: ((سيوضع على رأسك تاج كسرى))، فكان الأمر على ماأخبر.
ونحو قوله لعائشة: ((ستنبحكِ كلاب الحوأب))، فكان الأمر على ماأخبر.
ونحو إخباره للصحابة أن أويس القرني ـ رحمه الله ــ قلت: كذا في المنقول عنها بغير ألف على لغة ربيعة، قال ـ: يَرِدُ عليهم بعد وفاته، وأن به برصاً، دعا اللَّه تعالى فبرئ كله إلا قدر الدرهم، وكان عمر يسأل عنه، ويطلبه حتى ظفر به.
قلت: وهو من الشهداء ـ رضوان الله عليهم ـ بصفين، بين يدي سيد الوصيين، ـ صلوات الله عليه ـ.
قال (ع): ونحو نعيه لجعفر بن أبي طالب على بُعْد منه.
قلت: ورد في الأخبار أنه لما التقى الناس بمؤتة، وهي في تخوم الشام، وكان أهل الغزوة ثلاثة آلاف، والتقاهم ملك الروم في مائة ألف مقاتل، جلس رسول الله - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - على المنبر، وكُشِفَ له مابينه وبين الشام، ونظر إلى معركتهم، وأخبر أصحابه بما هم فيه، وقال: ((أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، ثم مضى قدماً حتى استشهد))، فصلى عليه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ ودعا له، ثم قال: ((استغفروا لأخيكم، فإنه شهيد قد دخل الجنة، فهو يطير فيها بجناحين من ياقوت، حيث يشاء من الجنة)).
وقال: ((أخذ الراية زيد بن حارثة))، وحكى /531(1/531)
عنه نحو ماتقدم عن جعفر بن أبي طالب، إلى قوله: ((ومضى قدماً حتى استشهد))، ثم صلى عليه؛ وقال: ((استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو يسعى)).
وقال: ((أخذ الراية عبدالله بن رواحة، ثم دخل معترضاً))، فشق ذلك على الأنصار، فقال رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((أصابته الجراح))، قيل: يارسول الله فما اعتراضه؟ قال: ((لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه، فَشَجُع، فاستشهد، فدخل الجنة)).
وفي أمالي الإمام الناطق بالحق أبي طالب، بسنده إلى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي ـ رضوان الله عليهم ـ أن رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ كان جالساً في المسجد، وقد خفض له كل رفع، وهو ينظر إليهم يقتتلون، والناس عنده، وكأن على رؤوسهم الطير، وهو يقول: ((تهيأ القوم، وتعبأوا والتقوا))، ثم قال: ((قُتِل جعفر؛ إنا لله وإنا إليه راجعون))، وأخذ رسول الله التقطع في بطنه ـ قلت: أي المغص ـ.
وساق في خبر جعفر (ع)؛ إلى قوله: ثم أخذ السيف وتقدم وهو يقول:
ياحبذا الجنة واقترابها .... طيّبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها .... علي إنْ لاقيتها ضرابها
انتهى.
[منها في حديث غزوة مؤتة]
وكانت غزوة مؤتة في جمادى، عام ثمانية من الهجرة، وأمراء رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ فيها الذين عينهم هؤلاء الثلاثة ـ رضوان الله عليهم ـ.
وقال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((إنْ قتل فلان ففلان، وإنْ قتل فلان ففلان))، وفي الثالث قال ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ: ((وإنْ قتل فليرتض المسلمون بينهم رجلاً)).
وسمع كلامه يهودي كان حاضراً، يقال له: النعمان، فقال: ياأبا القاسم، إن كنت نبياً فسيصاب من سميت قليلاً كانوا أوكثيراً، إن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل ثم قالوا: إن أصيب فلان، فلو سموا مائة أُصيبوا جميعاً.
ثم جعل يقول لزيد بن حارثة: اعهد فلا ترجع إلى محمد أبداً إنْ كان نبياً.
قال زيد: أشهد أنه نبي صادق.
ولما عقد رسول الله صلى الله /532(1/532)
عليه وآله وسلم لهم اللواء، وهو لواء أبيض، مشى الناس إلى أمراء رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، يودعونهم ويدعون لهم، وناداهم المسلمون: دفع الله عنكم، وردّكم صالحين سالمين غانمين.
فقال عبدالله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة .... وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
الأبيات.
نعم، وعند أهل البيت أن ترتيبهم في الأمارة هكذا جعفر، ثم زيد، ثم عبدالله.
روى أبو العباس الحسني (ع) في المصابيح، عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين، أنه كان على الناس يوم مؤتة جعفر بن أبي طالب.
وروى أيضاً من طريق أخرى، عن الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)، أن جعفر بن أبي طالب (ع) لم يبعثه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ في وجه قط إلا جعله على الناس، وهاجر الهجرتين جميعاً: هجرة الحبشة، وهجرة المدينة، وأمّره - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم - على من كان من المؤمنين عند الحبشة.
إلى قوله: وأسلم النجاشي على يديه، ثم قدم على النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وقد فتح خيبر؛ فقام إليه حين عاينه وتلقاه وعانقه، وقبّل بين عينيه، وقال: ((ماأدري بأيهما أنا أشد فرحاً وسروراً: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر؟)).
ثم أمّره على زيد وعبدالله بن رواحة، وجماعة الناس، في غزوة مؤتة، فقُطِعَت يداه، وضُرِبَ على جسده نيفاً وسبعين ضربة. انتهى.
قال ابن أبي الحديد: اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة هو كان الأمير الأول، وأنكرت الشيعة ذلك، وقالوا: كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول.
قال: وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي مايشهد لقولهم.
فمن ذلك مارواه عن حسان بن ثابت.
وساق قصيدته فيهم إلى قوله:
ولا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا .... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
/533(1/533)
إلى قوله:
غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم .... إلى الموت ميمون النقيبة أزهرُ
أغرّ كضوء البدر من آل هاشم .... أبيّ إذا سيم الظلامة أصعرُ
إلى قوله:
وما زال في الإسلام من آل هاشم .... دعائم صدق لا ترام ومفخرُ
هم جبل الإسلام والناس حوله .... رضاب إلى طود يطول ويقهرُ
بهاليل منهم جعفر وابن أمه .... علي ومنهم أحمد المتخيرُ
إلى قوله:
هم أولياء الله أنزل حكمه .... عليهم وفيهم والكتاب المطهر
ومنها قول كعب بن مالك الأنصاري.
وساق أبياته إلى قوله:
ساروا أمام المسلمين كأنهم .... طود يقودهم الهزبر المشبلُ
إذْ يهتدون بجعفر ولوائِهِ .... قدام أولهم ونعم الأولُ
إلى قوله:
فتغيّر القمر المنير لفقده .... والشمس قد كسفت وكادت تأفلُ
قوم علا بنيانُهم من هاشم .... فرع أشم وسؤدد متأثلُ
قوم بهم عَصَمَ الإلهُ عبادَه .... وعليهم نزل الكتاب المنزلُ
انتهى.
[منها في كرامات العترة]
هذا، وأورد الأمير الناصر (ع)، في الينابيع، بحثاً في كرامات أهل البيت (ع).
وقد ذكرت في التحف الفاطمية من كراماتهم (ع) مايشفي، وأذكر هنا مالم يكن هنالك، أو هو أبسط من ذلك.
قال (ع): فمن ذلك: أن الحسين السبط ابن علي الوصي أمير المؤمنين (ع)؛ لما قُتل بكربلاء، بكت عليه الأرض والسماء، وقطرت ـ كما رويناه بالنقل الصحيح ـ دماً.
ومن ذلك: كرامات زيد بن علي السجاد ابن الحسين الشهيد عليهم /534(1/534)