حثالة الحشو، وحزامة الإرجاء والجبر، ورديء القدر.
إلى قوله (ع): فلو قلّدنا الجاحظ والنظام، والعلاف والشحام، لكنا على مثل رأيك الفاسد، في التقديم للمشائخ على أمير المؤمنين، وهذا عندنا أكبر جرمهم؛ فنحن نرميهم في هذا ونرميك من قوس واحدة، وقد أخذنا الدين عن آبائنا تلقينا، كما يلقن الصفوة أولادهم في حال الصغر؛ فلما بلغنا حد النظر اعتمدنا الدليل، فوجدنا قولهم أقوى الأقوال؛ لأن التقليد ذمّه اللَّه تعالى، وحكاه عن الكافرين، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} [الزخرف]، ورد عليهم تعالى بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ ءَابَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزخرف]، وذمه رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، بقوله فيما رويناه بالإسناد الموثوق به: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، وعن التدبر لكتابه، والتفهم لسنتي، زالت الرواسي ولم يزل؛ ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، وقلّدهم فيه، ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال)).
وقال (ع) في سياق ذكر العترة مانصه: وإن المخصوص بذلك الذرية الزكية؛ وحققنا ذلك من الصحاح عند العامة، مع الذي اختصصنا بروايته نحن وأتباعنا من الشيعة، ومن حذا حذوهم في العدل من العدلية.
قلت: وفي قول الإمام (ع): من الصحاح عند العامة، دليل واضح، على عدم الحكم بصحتها، وأن تسميتها بالصحاح إنما هو مجرد اصطلاح؛ فافهم. /510(1/510)
[مسموعات الإمام المنصور بالله (ع)]
قال (ع): ومجموع مسموعاتنا من الخاصة والعامة، تجاوز مائة ألف حديث، ظننا ذلك ظناً، وحزرناه حزراً، ولم نرد بذلك التبجح؛ وإنما أردنا التعريف، وبينا أنا المخصوصون بوجوب الوداد، من ذوي القربى، وخرجناه من الصحاح.
إلى قوله (ع): وقدمنا اختصاص أولاد الحسن والحسين (ع) بالإمامة، دون سائر إخوتهم وبني عمهم، ودللنا على ذلك؛ وكذلك اختصاصهم من الحرمة والحق والتبجيل والتعظيم، بما لايستحقه سائر أهلهم؛ لما لهم من الاختصاص بالنبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ؛ لكونهم نسل بضعته الشريفة؛ وقدمنا أن الذي يشرف به البطون الأربعة على سائر قريش ـ بل على سائر العرب والعجم ـ هو بعينه يدل على شرف أولاد فاطمة (ع) على سائرهم، وهو شدة اللحمة، والقرب منه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ.
إلى قوله: ولما حققه ـ وقوله الحق ـ أنهم أبناؤه وعصبته دون جميع الأقارب، وكان ذلك خاصة، كما ورد مثله في موارد الأحكام؛ فهم أولى به بالتعصيب، وذوو أرحامه، كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال:75].
ولأنه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، لو بُعِثَ لنكح من بني هاشم، لافينا؛ لأنهنّ بناته، ولما ضرب بينه وبينهن حجاب؛ فأي قرابة أقرب من هذا؟!.
قال (ع): ولقرابتهم هذه القريبة، ودعواهم هذه الظاهرة، لم يترك قائمهم القيام على قلّة الأعوان، وغدر الزمان.
إلى قوله (ع): فلقد لقي عدوّهم منهم أنواع العذاب.
هذا جدنا محمد بن إبراهيم (ع)، وهو القائم بالكوفة، عُدّ القتلى المفقودون من جند بني العباس في دعوته،/511(1/511)
مائتي ألف قتيل.
وفي أيام علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الناجم بالبصرة مائتا ألف وخمسون ألفاً؛ وقيل: تناهت القتلى إلى ألف ألف.
وفي أيام الحسن بن زيد (ع)، مالم يتأت لنا حصره.
وقتل الناصر الحسن الأطروش يوم نورود خمسة وعشرين ألفاً في يوم واحد؛ ثم قال على منبر آمل: آهٍ آهٍ، في الصدر حرارات لم تشفها قتلى نورود؛ قالوا: يابن رسول الله، ما تبغي؟ وعلى من تبكي؟ قال: أبكي لقوم هلكوا في الحبوس، ولقوم فُرّق بين أجسادهم والرؤوس، ولقوم مُزّقوا تحت أديم السماء.
إلى قوله (ع): فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، بل خاضوا بحار السيوف قدماً، حتى ماتوا كرماء، فأي خِيْم أشرف من خِيمهم؟ وأي عزائم أمضى من عزائمهم؟.
إلى قوله (ع): وهذا دأبهم، حتى يرد الله إليهم أمرهم؛ وإن تكن الأخرى، فما عند الله خير وأبقى؛ وكيف يلذّ لهم النوم، وأبوهم الليث الأغرّ مات مظلوماً، وأمهم الزهراء ماتت غضبانة، أوصت أن تمرض سراً، وأن تدفن ليلاً؟.
أتموت البتول غضبى ونرضى .... ماكذا يفعل البنون الكرامُ
وقال (ع): وقد ثبت أن إجماعهم حجة بما قدمنا ذكره؛ وسيأتي إعادة مايحتاج إلى إعادته من آية التطهير، وآية الاجتباء، وحديثي السفينة، وسواه.
[نبذة من الشافي في المسائل التي أجمع عليها العترة أصولاً وفروعاً]
إلى قوله: ونذكر له طرفاً مما أجمعوا عليه ـ سلام الله عليهم ـ.
فمن ذلك مما يتعلق بالفروع: إجماعهم على نفي صلاة الجمعة خلف أئمة الجور، وعلى تحريم التلبس بهم، وعلى ترك المسح على الخفين، وعلى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وعلى القنوت في الصلاة بالقرآن، وعلى تكبير خمس على الجنائز، وعلى جهاد المحدثين، وعلى تحريم المسكر وأنواع الملاهي.
[قلت:] يحمل قوله: وعلى القنوت في الصلاة بالقرآن، على أن المراد غير ماصحت به الأخبار، نحو: اللهم اهدني فيمن هديت..إلخ.
وكذا قوله: وعلى تكبير خمس، أي: لاينقص منها، وأما الزيادة فلا؛ لما ورد من تكبيره ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ على الحمزة ـ رضوان الله عليه ـ مع جميع الشهداء، وغير ذلك.
قال عليه /512(1/512)
السلام: وأما مسائل الأصول من نفي التشبيه على اللَّه تعالى، وأن علي بن أبي طالب الإمام بعد رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ، وأنه أفضل الناس بعده وأعلمهم، وعلى أن من تقدم عليه فهو متعدّ عليه، ظالم له؛ إلى سائر الأصول في العدل والتوحيد، وتوابعهما؛ فلا يناكر في ذلك إلا المباهتون، ومن لا يستحي من الكذب.
ومن كان من ورثتهم غير مائل إلى ملوك الدنيا، فإنما يقتبس من نور آبائه (ع)، ويكرع في حياضهم، ويرتع في رياضهم، ولايروعه بهت الباهتين، عن غاية شأوه في إعزاز الدين.
وقال (ع)، في الجزء الرابع من الشافي في ذكر الكرامات: ونحن نعرفها في آبائنا (ع)، وأتباعهم من فضلاء المسلمين؛ ولولا خشية الإطالة لروينا من ذلك كثيراً.
هذا القاسم بن إبراهيم (ع) دعا إلى الله في مخمصة، فتهدل السرير عليه رطباً؛ ودعا إلى اللَّه تعالى في ليلة مظلمة فامتلأ البيت عليه نوراً.
وقد منّ اللَّه تعالى علينا بما هو أهله، ويجب شكره، مما قد ذكره الأولياء في كتبهم، وبعضهم شاهد ذلك، وبعضهم علمه من المُشَاهد؛ ولكن الكرامات لاتكون إلا للأولياء، ولا ولاية لمن يزعم أن اللَّه تعالى يخلق أنواع المعاصي ويريدها.
فعلى مذهب المجبرة القدرية لا معنى للتطهير؛ لأن اللَّه تعالى خالق لجميع الأفعال، الهدى منها والضلال؛ فإن فعل فيهم الطاعة والإيمان طهروا، وإن لم يفعل ذلك فيهم لم يطهروا؛ فلا معنى للمنة بشيء هو المتولي لأصله وفرعه، ولا حيلة للعبد في الخروج منه بوجه من الوجوه.
ولولا قلّة التحصيل لما أورد ماينقلب عنه أوضح الانقلاب.
قلت: وماذكره الإمام (ع) من الكرامات، فهي من أعلام النبوة، ودلائل الرسالة، ومن قبس ذلك النور، وضياء تلك المشكاة، وهي آيات بينات يزداد بها اليقين، وتطمئن إليها قلوب المتقين.
[نبذة من الشافي في وجه روايته عن المخالفين]
هذا، وقال الإمام (ع): ونحن لاننقل إلا ماصح لنا بالنقل الصحيح، أو كان من رواية ضدنا، فنورده للاحتجاج عليه، ولم نورد من ذلك /513(1/513)
إلا ومعنا من البرهان عنه مايكفي، ويزيده تأكيداً.
قلت: انظر ـ أيها الناظر بصرنا اللَّه تعالى وإياك ـ وتدبر كلام الإمام الحجة؛ فقد صار مَنْ لا قدم له ولا اطلاع، وكذا أهل الزيغ والتدليس على الأتباع، يوهمون أن رواية الأئمة عن المخالفين تدل على القبول، من غير فرق بين مردود ومقبول، ولا اعتبار بما تقتضيه مسالك الأصول، وأدلة المعقول والمنقول.
ومتى قيل لهم: إن الأئمة (ع) لم يرووا من تلك الطرق للاعتماد عليها، وإنما هو للاحتجاج على ملتزميها، عدّوا ذلك من الكلام الساقط المرذول، وعمدوا إلى الروايات التي يحتج بها أئمتنا (ع) على الخصوم، واتخذوها وسيلة إلى المغالطة على من لاخبرة له ولابصيرة بمدارك العلوم؛ مع أن الأئمة (ع) مصرّحون بأن نقلهم لها للاحتجاج بها عليهم، والإلزام للخصم بما يلتزمه، كما ذكر ذلك إمام الأئمة، الهادي إلى الحق، يحيى بن الحسين (ع) في باب الأوقات من المنتخب؛ فنقله صاحب تنقيح الأنظار محمد بن إبراهيم الوزير مستدلاً بذلك، على أن إمام اليمن يروي عن أولئك؛ فيالله للعجب! كيف يتجاسر هذا الحافظ المحقق، المطلع النظار، على مثل هذا التمويه الذي لايصدر إلا عمن لامبالاة له، ولا تحرج عنده ولا اعتبار؟.
كيف والإمام الهادي إلى الحق مصرح في البحث ذلك بعينه، تصريحاً لااحتمال فيه ولا اشتباه على أولي الأبصار؟!.
هذا، والحديث ذو شجون؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ونعود إلى تمام كلام الإمام.
قال (ع): ولما جرى الكلام في الجواب على الفقيه، عن إمامة العباسي ـ فذكر الإمام أحوال ذلك العباسي وتهتكه بمحارم الإسلام ـ.
ثم قال (ع): وإمام الشيخ الذي ردّ عليه الفقيه.
قلت: أراد بالإمام نفسه، وبالشيخ محيي الدين القرشي ـ رضي الله عنه ـ.
رجعنا إلى تمام كلامه في حال نفسه: قام ودعا على من يعاشره من حال /514(1/514)