الفصل الأول [الاستدلال على تحريم الافتراق في الدين]
اعلم ـ أيدنا الله وإياك بتأييده، وأمدنا بمواد لطفه وتسديده ـ أن من أقدم ما يتحتم، وأهم ما يتعين، على الناظر في كتاب ربه وسنة نبيه ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ من ذوي الألباب، عرفانُ الحق والمحقين، المشار إليهما بقوله عز وجل: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة]، لما يتوقف عليه من رواية السنة الشريفة وتفسير الكتاب؛ ولتوليهم واتباع سبيلهم، المأخوذين على كافة المكلفين، بقواطع الأدلة وإجماع جميع المختلفين.
ومن المعلوم: أن الله تعالى أمر عباده بسلوك دين قويم، وصراط مستقيم، ونهاهم عن اِلافتراق في الدين، واتباع أهواء المضلين؛ قال جل جلاله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى:13]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام]، في آيات بينات، وأخبار نيرات.
وما كان العليم الحكيم سبحانه، /31(1/31)
ليأمرهم وينهاهم إلا بما يستطيعون، وله يطيقون، بعد إبانة الدليل، وإيضاح السبيل {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة:286]، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَاهَا } [الطلاق:7]، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه]، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة]، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)} [الأنفال].
وقد قص الله على هذه الأمة أنباء الأمم السابقة، والقرون السالفة، وما كان سبب هلاكهم، من الإختلاف في الدين، وعدم الائتلاف على ما جاءتهم به أنبياؤهم من الحق المبين؛ قال عز وجل: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران]، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } [الأنعام:159]، في آي منيرة، ودلائل كثيرة.
ورَفْعُ الجناح للمتأول بالخطأ، مَحَلُّه فيما شأنه أن يخفى، مما لم يقم عليه بيان قاطع، ولابرهان ساطع، وإلا امتنع الحكم بالضلال؛ للاحتمال لكل مدع لشبهة، من أهل الكتابين وسائر الملل الكفرية، وارتفع القطع بالهلاك لأي مخالف يجوَّز ذلك في حقه من البرية، مالم يقروا بالعناد، وذلك أقل قليل من العباد؛ وهذا عدوّ الله إبليس تشبث بالشبهة وهو رأس الإلحاد، ولم يعذر الله تعالى من /32(1/32)
حكى عنهم ظن الإصابة واِلاعتقاد، نحو قوله عز وجل: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)} [المجادلة]، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف]، وما ورد من أوصاف المارقين من الدين.
ولانسدت الطريق، إلى معاملة كل فريق، ولبطلت الأحكام، من الجهاد والمعاداة وغيرها؛ وهذا خلاف المعلوم الضروري من دين الإسلام، وقد أمر الله بالمقاتلة والمباينة لغير المعاهدين، من الكافرين والباغين، ولم يستثن ذا شبهة وتأويل، بل جعل المناط مخالفة الدليل؛ ولايمكن الفرق قطعاً بين من عذره الله تعالى ورفع عنه الجناح، ومن لم يعذره وأوقع عليه اسم الكفر أو البغي ونحو ذلك، مما يفيد المؤاخذة باتضاح، إلا بأحد أربعة أمور:
1. إما أن يكون الخلاف في ضروري.
2. وإما أن يصرح كما قدّمنا بالعناد، وعدم النظر.
3. أو يرد فيه نص بخصوصه.
4. أو يكون المناط المخالفة للمعلوم المكلف به ضرورياً كان أو استدلالياً جلياً.
والأول والثاني غير موجودين قطعاً في كثير من أهل الكتابين، وأهل الملل وغيرهم، وقد علم قطعاً جري الأحكام عليهم جميعاً، من كان منهم في عصر النبي ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ وبعده.
والثالث ممتنع بعد ارتفاع الوحي؛ وأيضاً على هذا أنه لايحكم إلا على من ورد فيهم النص بأعيانهم، أو قاتلهم الرسول ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ كذلك؛ وأما غيرهم ـ وإن كانوا على /33(1/33)
ما هم عليه من الملة ـ فلا؛ لاحتمال أن يكونوا مخطئين متأولين قد بذلوا الجهد، فليسوا بمؤاخذين؛ وهو خلاف ما قضت به الآيات القرآنية، ونطقت به السنة النبوية، وأجمعت عليه الأمة المحمدية، من معاملة كل فرد من كل طائفة من أهل الكتابين، وسائر الملل الكفرية بمعاملتهم، من غير فرق بين ناظر ومعاند، ومقرّ وجاحد.
ولم يبق إلا الرابع؛ واشترك فيه كل مخالف؛ وسواء قُدّر أنه عاند أو قصر؛ لمخالفة المعلوم، الذي كلف العلم به، ضرورياً كان أو استدلالياً جلياً، مع التمكن من النظر، وإن اختلف حكم المخالفة، وتفاوتت الدرج، إلى مُخْرج عن الملة وغير مُخْرج، حسبما يقتضيه الدليل.
وبهذا وغيره من الأدلة القاطعة مما لايسعه المقام يتبين أنه غير معذور، وأن المطابقة للحق ممكنة؛ إذْ لايكلف الحكيم ماليس بمقدور؛ والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
هذا، وقد علم ماعمت به البلوى من الافتراق، وقامت به سوق الفتنة في هذه الأمة على ساق، وصار كل فريق يدعي النجاة لفريقه، والهلكة على من عدل عن منهاجه وطريقه، وأن حزبه أولوا الطاعة، وأولى الناس بالسنة والجماعة؛ كما قال ذو الجلال: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} [المؤمنون] /34(1/34)
والدعاوي إن لم تقيموا عليها .... بيّناتٍ أبناؤها أدعياءُ
[السبيل الوحيد لطالب النجاة]
وسبيل طالب النجاة، المتحري لتقديم مراد الله، وإيثار رضاه، الاعتماد على حجج الله، وتحكيم كتاب ربه تعالى، وسنة نبيه - صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم -، واطراح الهوى والتقليد، اللذين ذمهما الله في الكتاب المجيد، وتوخي محجة الإنصاف، وتجنب سبل الغي والإعتساف، غير مكترث في جانب الباطل لكثرة، ولا مستوحش عن طريق الحق لقلة؛ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله؛ إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلايخرصون.
وقد قرع سمعك ـ أيها الناظر، وفقنا الله وإياك ـ مانعى الله تعالى على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وماذاك إلا اتباعهم لهم، وطاعتهم إياهم، كما فسر ذلك رسول الله ـ صَلَّى الله عَليْه وآله وسَلَّم ـ لعدي بن حاتم - رضي الله عنه -: ((فتلك عبادتهم)).
وسمعت ما حكى من تبري بعضهم عن بعض، ولعن بعضهم لبعض، وتقطع الأسباب، عند رؤية العذاب ـ أعاذنا الله تعالى منه، وأنالنا بفضله وكرمه الزلفى وحسن المآب ـ والله جل جلاله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } [النساء:135].
ومن المعلوم أنه متى كان النظر من أهله، فيما يحتاج الناظر فيه إلى النظر على هذه الطريقة، معتصماً في كل مقام بهذه الوثيقة، تتنوّر بصائر صاحبه ببراهين اليقين، وتنكشف عنه رِيَبُ المرتابين. /35(1/35)