فصح أنَّه لايصح في الاعتقادات إلاَّ اعتماد الدليل المعلوم، أما الآحاد فإن الواحد قد يخطئ أو يخطئ مُعَدِّله وهو غير عدل، ويكون الواحد عدلاً عند قوم مجروحاً عند آخرين، ويكون الجرح والتعديل مبنياً على الظن والترجيح، فكيف يحصل به العلم اليقين، مع أن العقائد قد حصلت فيها الأدلة المعلومة فلا يقبل الآحادي المخالف لها لأنَّه منكَر المتن، وأنتم لاتقبلون ما يخالف أصولكم في أبي بكر وعمر، بل تجرحون في الراوي لأن الرواية عندكم منكرة، فكذلك ما خالف الأصول الثابتة بالعقل ومحكم القرآن، فلا يقبل المخالف لها لأنَّه منكر إلاَّ أن يقبل التأويل ويؤول بما لايخالف الحق فلا بأس بقبوله على هذا الشرط.
* قال مقبل: يقول وكيع: من رد حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبدالله فهو جهمي.
& والجواب: لانسلم صحة هذا عن وكيع، ولو صح فليس حجة، بل هو دليل على جهل قائله، لأن نفي الرؤية لايختص بجهم، والخلاف فيها مشهور لغير جهم، مع أن رد الحديث من أجل سنده للعلة المذكورة في قيس وجرير لايُوجب أن يكون المنكِر له جهمياً.
* قال مقبل: والحديث ليس عن جرير فحسب بل هو وارد عن قدر ثلاثين صحابياً.(1/26)


& والجواب: إنهم كثروا الطرق بروايات واضحة البطلان وإنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليست حديثاً واحداً بل هي رواية أحاديث مختلفة وإن تضمنت الرؤية، وفي بعضها إثبات الصورة لله سبحانه، فالحديث الواضحُ كَذِبُ راويه لاتُكَثَّرُ به الرواية، ومع مخالفتها كلها لقول الله تعالى: {لاَتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}(1) لايصح اعتمادها، بل إما أن تُرَدّ لمخالفتها الآية القرآنية الَّتِي لاينحصر رواتها بل روتها الأمة كل قارئ منها، فما تكون في جنب نقلة القرآن نقلة رواية الرؤية، وإما أن يُرَدّ بعضها وهو ما في أحاديث التشبيه الواضح لأنها لاتَقبل التأويل إلاَّ بتعسف، ويُقبل ماليس فيه إلاَّ ذكر الرؤية على شرط تفسيره بما لايعارض الآية القرآنية، وذلك أن تفسَّر الرؤية برؤية نور العدل يوم القيامة، والحق الخالص، والرحمة لأولياء الله، والكرامة لهم وإعلاء الحق، وإخزاء الباطل وأهله، فتكون مشاهدة تلك الأمور تعتبر رؤية لأنَّه يحصل بها العلم الضروري بالله، واتصال الأذهان بجلاله لايشغلها عنه شاغل فكما أن رؤية نور القمر تعتبر رؤية للقمر مع أنَّه لايُرى من الأرض حقيقة على حد رؤية الحاضر عنده من رُوّاد الفضاء الذين يرونَهُ من عنده كما نرى الأرض، إنَّما يُرى من الأرض نوره، فكذلك رؤية نور الحق يوم القيامة، لأن المؤمن يكون قلبه صالحاً للعلم الضروري والذكر الخالص لله، وقد رضي الله عنهم ورضوا عنه بخلاف الكافر فهو مشغول بنفسه: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآَخِرَةِ أَعْمَى}(2) وعلى هذا يكون للتشبيه برؤية القمر فائدة غير ما يتوهم المشبهون لله سبحانه، وتلك الفائدة أن الرؤية هي رؤية نور الحق الَّتِي تتجلى بها عظمة الله وجلاله، فتتجه لها قلوب المؤمنين إلى الله سبحانه، كما أن رؤية القمر ليست رؤية جرمه حقيقة إنَّما هي رؤية نوره وشعاعه. والله أعلم.
__________
(1) ـ الأنعام: 103.
(2) ـ الإسراء: 72.(1/27)


أو تقبل الرواية على أنَّها من المتشابه الذي يُرَدّ إلى المحكم، أو يقال فيه لايعلم تأويله إلاَّ الله على الخلاف في المتشابه.
* قال مقبل: ويلمزون أهل السنة بأنهم حشوية وبأنهم خوارج.
& والجواب: إنك أردت بأهل السنة أهل مذهبكم وأسلافك من أهل الحديث، ولم يلمزوهم كلهم بأنهم خوارج، إنَّما قالوا: الوهابية الذين يكفِّرون المسلمين ويستحلون دماءهم هم خوارج، لأنهم على طريقة الخوارج في تكفير المسلمين وسفك دمائهم، كما ذلك معروف من عهد محمد بن عبدالوهاب. فأما الأولون من المحدِّثين فلم يسموهم خوارج فلا تَكْذِب عليهم ليتسنى لك الرَّد.
* قال مقبل: ولكن من هم الخوارج؟ لو قرأنا التاريخ لوجدنا أنهم الذين يخرجون على الخلقاء من زمن قديم.
& والجواب: إن أصل الخوارج: الفرقة الَّتِي خرجت على رَعيَّة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الإمام المحق، وادعوا أنه هو ورعيته كلهم كفار واستحلوا دماءهم وأموالهم، ثُمَّ سمي من كان على مذهبهم من بعدهم خارجياً.(1/28)


فأما من خرج على ولاة الجور الطغاة لإعلاء كلمة الله ودفع الظلم عن المسلمين فليس خارجياً لأنَّه ليس على طريقة أولئك الخوارج، ولا على مذهبهم في تكفير المسلمين، بل هو كما أُمِر في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ}(1)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُوْنُوْا أَنْصَاراً لِلَّهِ}(2)، وقال تعالى: {وَجَاهِدُوْا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}(3)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيْلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيْلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ}(4)، والجهاد في سبيل الله هو الجهاد في سبيل نصرة دين الله وإعلاء كلمة الله، فكيف سوى مقبل بين الخارجين على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمام الهدى وهم أهل الباطل، يقتلون المسلمين بغير حق ويكفرونهم بغير موجب، وبين من قام من أئمة الهدى الدعاة إلى الله المجاهدين في سبيل الله ضد ولاة الجور مثل يزيد، ومثل هشام بن عبدالملك، ومثل ولاة بني العباس؟ فيسوي مقبل بين المجرمين الخارجين على إمام الهدى علي بن أبي طالب، والمسلمين الخارجين على ولاة الجور للأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِيْنَ كَالْمُجْرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ}(5)، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِيْنَ كَالْفُجَّارِ}(6)؟.
__________
(1) ـ آل عمران: 104.
(2) ـ الصف: 14.
(3) ـ الحج: 78.
(4) ـ المائدة: 35.
(5) ـ القلم: 36.
(6) ـ ص: 28.(1/29)


وقد شعر مقبل بعار هذا الكلام أو خاف فاحترس بقوله: وقد يكونون مصيبين، وقد يكون بعضهم مصيباً. ولكن لم يخرجهم من اسم الخوارج، فبان أنَّه قاله تستراً واحتراساً، ولو كان أراد الإنصاف لقال: ولكن أئمة أهل البيت أمثال الحسين السبط وزيد بن علي ومحمد بن عبدالله النفس الزكية والحسين بن علي الفخي ومحمد بن محمد بن زيد ومحمد بن إبراهيم وغيرهم ليسوا خوارج، لأنهم لايكفرون المسلمين ولايخرجون على ولاة الحق.
* قال مقبل: فالبدار البدار إلى العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
& والجواب: هذه كلمة حق يراد بها باطل، لأن الغرض بها اتباع مذهبكم في تصحيح ما صحح أسلافكم وتضعيف ما ضعفوا من الحديث، وجرح من جرحوا من الرواة وتوثيق من وثقوا، لأن السنة عندكم هي ما صححه أسلافكم أو حَسَّنوه، فالدعوة منكم إلى السُّنة دعوة إلى تقليدهم.
ألا ترى أنكم قلتم أن المقبلي مذبذب، مع قولكم أنَّه يريد نصرة السنة، فلم تعتبروه من أهل السنة حقاً لَمَّا لم يكن على مذهب أسلافكم في كل شيء، فالدعوة في الحقيقة ليست دعوة إلى السنة. إنَّما هي دعوة إلى مذهب أسلافكم وتقليدهم في التصحيح للحديث والتحسين وغير ذلك.
أو لا ترى أنكم لاتعتبرون من يريد السنة الَّتِي يرويها أهل البيت وشيعتهم، لاتعتبرونه من أهل السنة بل تعتبرونه من أهل البدعة، وتزعمون أن حديث أهل البيت وشيعتهم ليس صحيحاً ولاسنة، فتبين أنكم إنَّما تدعون إلى مذهب أسلافكم في الحديث والعقائد والفقه، لأن ذلك عندكم هو السنة، وهذا باطل كما حققناه في (تحرير الأفكار) تحقيقاً كاملاً فليراجعه من أراد الحق.
فظهر أن دعوتك إلى السنة كلمة حق يراد بها باطل.(1/30)

6 / 9
ع
En
A+
A-