وحكا الذهبي في (الميزان) في ترجمة أيوب بن عبدالسلام أن ابن حبان روى عنه أنَّه روى عن ابن مسعود: (( إن الله إذا غضب انتفخ على العرش حتَّى يثقل على حملته )) قال: رواه حماد بن سلمة(1).
فنعوذ بالله من مثل هذا الكلام، فإنه يقود إلى تشبيه الله بخلقه وعبادة غير الله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ}(2)، {لاَتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الْخَبِيْرُ}(3).
* قال مقبل: يتركون الأحاديث المتواترة، مثل (حديث النزول) لأجل الوسوسة.
& والجواب: إن ترك اعتماد ما يوهم الحديث من التشبيه واعتباره من المتشابه لابأس به، لأنَّه ليس رداً للحديث وإنَّما هو اتباع للمحكم وجعل المتشابه على معناه الصحيح، لا على ما يُتَوهم منه مِنْ تشبيه الله بخلقه، لأنَّه جمْعٌ بين الأدلة واتباع للمحكم الذي هو أم الكتاب، أي المرجع الذي يرجع إليه ولو كان لكم أن تجعلوهم قد نبذوا الحديث وردوه رداً ورفضوه رفضاً من أجل تأويله، واعتمادهم على العقل والمحكم كان لهم أن يقولوا: إنكم قد رددتم القرآن ورفضتموه لمخالفتكم قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(4)، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}(5).
__________
(1) ـ الميزان 1/290، المجروحين لابن حبان 1/165.
(2) ـ الشورى: 11.
(3) ـ الأنعام: 103.
(4) ـ الشورى: 11.
(5) ـ الحديد: 4.(1/21)
وأما قوله: لأجل الوسوسة. فهو يعني به التفكر بالعقول يسميه وسوسة، فهو يدعو إلى إهمال العقول الَّتِي هي حجة الله على بني آدم، كما أن إهمالها سبب دخولهم جهنم قال تعالى: {وَقَالُوْا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيْرِ}(1)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَيَفْقَهُونَ بِهَا}(2)، وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}(3)، ولعل المشركين لو استعملوا عقولهم لما أشركوا، فالنصارى لو نظروا أن عيسى وأمه من البشر كانا يأكلان الطعام لتأوَّلوا الروايات الَّتِي تسميه: ابن الله، أو تسمي الله أباه ـ سبحان الله وتعالى ـ.
ولكنهم قبلوا الروايات عن عيسى الَّتِي فيها تسمية الله أباً، ولم يتأولوها لأنهم أهملوا عقولهم فجعلوه ابن الله غلواً فيه واتباعاً للهوى وإهمالاً للعقول.
* قال مقبل: وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي )).
& والجواب: هذا الحديث لايصح وإن كان عند المخالفين مشهوراً عن أنس، لأنهم أهل البدعة وهو روايتهم يروونه لنصرة مذهبهم، والمبتدع لاتقبل روايته فيما يُقَوي بدعته، ولو صح الحديث لما كان دليلاً على ما يريدون، لأنَّه يحمل على الشفاعة في تعجيل الحساب، أو يحمل على أنَّه مجمل لأنه لم يذكر فيه ماذا يطلب بالشفاعة، لم يذكر فِيمَ يشفع لهم، فليس لكم أن تبينوا المجمل بأهوائكم أو بروايات غير صحيحة، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُغريَ الأمة بالكبائر ويؤمنهم عقوباتها.
__________
(1) ـ الملك: 10.
(2) ـ الأعراف: 179.
(3) ـ الإسراء: 36.(1/22)
هذا إذا كان المراد بالكبائر كبائر الإثم والفواحش، فأما إن كان المراد بالكبائر كبائر الطاعات الَّتِي تثقل على النفوس، فلا إشكال، ولعلكم تنكرون هذا المعنى الذي هو كبائر الطاعات والله تعالى يقول: {وَاسْتَعِيْنُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيْرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِيْنَ}(1)، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعِ الرَّسُوْلَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيْرَةٌ إِلاَّ عَلَى الَّذِيْنَ هَدَى اللَّهُ}(2)، وقال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِيْنَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}(3).
وعلى هذا فالذي يفعل من الطاعات ما يثقل عليه ويعسر ويتحمل المشقة ليرضي ربه تكون له الشفاعة، لأنَّه عمل عملاً كبيراً عليه ليرضي ربه.
ولعلكم تقولون: الكبائر حقيقة في كبائر العصيان.
والجواب: هذا عُرْفٌ حادث، والقرآن والسنة عربيان يفسَران باللغة العربية لا بالعرف الحادث، ألا ترى أن السيارة قد صارت في هذا العصر حقيقة في تلك المصنوعة من الحديد وغيره الَّتِي يسافر بها ويحمل عليها، ولايصح أن يفسر بها قول الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ}(4)، وإنَّما يفسر بمسافرين يكثرون السير، فهكذا اسم الكبائر لايفسر بكبائر العصيان، إلاَّ حيث قامت قرينة أو أضيف إلى المعاصي كما في القرآن: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}(5)، {الَّذِيْنَ يَجْتَنِبُوْنَ كَبَائِرَ الإِثْمِ}(6).
فتحصَّل: أن الحديث مجمل باعتبار اسم الكبائر، وباعتبار المشفوع فيه ما هو؟ فالحديث إن صح فهو من المتشابه يُرَدُّ إلى المحكم، أو يقال: ما يَعلم تأويله إلاَّ الله، على الخلاف في المتشابه.
__________
(1) ـ البقرة: 45.
(2) ـ البقرة: 143.
(3) ـ الشورى: 13.
(4) ـ يوسف: 19.
(5) ـ النساء: 31.
(6) ـ النجم: 32.(1/23)
* قال مقبل: فمتى متى جاز لهم أن يستدلوا بقول عمر لأنَّه موافق لأهوائهم.
& والجواب أنَّه ليس استدلالاً بقول عمر بمعنى أنه حجة، وإنَّما المقصود أنَّه قال: (( لو كان سالمٌ حياً ما شككت فيه ))، ولم ينكره على عمر أحد من الصحابة، ولو كانوا قد سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( الأئمة من قريش )) لوجب عليهم أن يردوا على عمر فيقولوا: إن سالماً ليس قرشياً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( الأئمة من قريش ))، فلما لم يردوا على عمر، دل ذلك على أن الحديث لم يكن وجد، وإنَّما وجد بعد ذلك لتثبيت ملك بني أمية وقطع أطماع من يُخشى منه المنازعة في الملك، ممَّن ليس من قريش.
فأما تكثير الرواة فإن سياسة الدولة تستطيع الإجبار على مثل ذلك وأكثر من ذلك، ألا ترى أن زياد بن أبيه جمع من شهود الزور مائة شاهد وواحداً وخمسين شاهداً شهدوا على حجر بن عدي وأصحابه بالخلاف والدعوة إلى الفتنة والحرب، فشهدوا لَمَّا كان لزياد سلطان ودولة، وأمكنه مع سلطانه أن يكثر شهود الزور إلى هذا العدد الكبير.
وكذلك هارون الملقب الرشيد استطاع بسلطانه أن يجمع ألفاً وثلاثمائة شاهد زور، فشهدوا أن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه السلام شهدوا أنَّه عَبْدٌ لهارون، ليسلِّمه إليه ملك مِن الأعاجم كان صار إليه متشرداً من هارون(1).
__________
(1) ـ القصة مبسوطة في الشافي 1/224 ـ 237، وكتاب أخبار فخ لأحمد بن سهل الرازي.(1/24)
فما ذكر مقبل من كثرة رواة حديث: (( الأئمة من قريش )) عن أنس لايدل على صحته، حيث أن الحديث يمكن الأمويين تكثير رواته لأن لهم فيه غرضاً سياسياً(1).
ولذلك غضب معاوية لما سمع بحديث: إنَّه سيكون ملك من قحطان، كما في (البخاري ـ ج 13 ص 102، 103 ـ من شرح ابن حجر على البخاري) فهذا الوجه لمن نفى صحته، وهو يبين أنه لم ينفها مجازفة واتباعاً للهوى، ولا احتجاجاً بمجرد قول عمر.
* قال مقبل: يقولون في الأحاديث: هذا آحاد وهذا أصول وهذا فروع. وجعل ذلك ترَّهات.
& والجواب: إن هذا من مقبل تسوية بين المعلوم والمظنون وهو خطأ، لأن المعلوم يَحْصُل العلم اليقين منه فتنبني عليه العقيدة الصحيحة في العقائد الأصولية. أما المظنون فلا يحصل به الاعتقاد المبني على العلم بل إذا بُنِيَت عليه عقيدة كانت ضعيفة تحتمل الخطأ والصواب، لأن الظن يخطئ ويصيب، وخبر الآحاد في الغالب لايحصل به علم اليقين، ولو وجب أن تبنى عليه العقائد لكان معظم الفِرَق علىحَقّ، لأنهم يروون روايات يصححون بها عقيدتهم ويوثقون الرواة منهم ولايمكن أن تكون العقائد المختلفة كلها حقاً، ولا أن يكلف الإنسان باعتقاد ما ظنه ولو باطلاً.
__________
(1) ـ لعل المؤلف يشير هنا إلى عدم صحة حديث: (( الأئمة من قريش )) ولكنه جاء في الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى: انتهى إلينا في الخبر المشهور أن النبي (ص) وقف على باب بيت فيه جماعة من قريش فأخذ بعضادتي الباب ثُمَّ قال: (( الأئمة من قريش )). وقال السيد مجد الدين في الجامعة المهمة 31: قد صح الخبر من طريق أهل البيت كمجموع زيد بن علي ونهج البلاغة وغيرهما ومن سائر طرق الأمة.(1/25)