والنوم راحة البدن ، والمجاهدة إتعاب البدن ، فإذا هجر المجاهد النوم والإستراحة ، دانت له الجوارح فيحيى القلب ، وترتفع عنه حجب الشهوات ، فحينئذ ينظر إلى عالم الملكوت بعين قلبه ، فيشتاق الى ربه .
العاشر : المحافظة على الأمر الوسط في الطعام والشراب لاالشبع ولا الجوع المفرَّط كما قال تعالى: {وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين } .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أكل طعاما بشهوة حرّم الله على قلبه الحكمة، ومن تركها رزق لله قلبه الحكمة ) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا سكنت كلب الجوع برغيف فعلى الدنيا الدبار ) .
وفي هذا الخبر تعيين قدر الطعام فافهم .
وقيل: الآفات كلها مجموعة في الشبع ، والخيرات كلها مجموعة في الجوع .
وآفات الشبع كثيرة قد عدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ ــ رواها في كتاب : (التصفية ) للديلمي ـ الى سبعة وعشرين :
تقسى القلب ، وتضر الجسد ، وتذهب البهاء ، وتنسي الرب ، وتمحق الدين ، وتذهب باليقين ، وتنسي العلم ؛ وفيه ترك الأدب ، وركوب المعاصي ، واحتقار الفقراء ، ونقصان العقل ، وذهاب السخاء ، وزيادة البخل ، وثقل النفس ، وزيادة الشهوات ، وقوة الجهل ، وكثرة الكلام الفضول ، وحب الدنيا ، وكثرة الضحك .
ويقل الاخلاص ، ويطيل النوم ، ويكثر الغفلة ، ويفرق الأصحاب ، ويكثر الغم .
الى غير ذلك من الخصال الدنية .
وفي الجوع سبعا وعشرين خصلة اضدادها : وهو المانع عن العلم والعمل الذين لهما خلق الإنسان .
وأجمع الحكماء والزهاد على أن الجوع سبب نور القلب ، والشبع مانع عنه ، وهذا ظاهر قد جربناه ووجدناه .
وهو يورث الكسل ونقض الطهارة ، واجتناب الملائكة ، وتضييع الأوقات ، وقراءة القرآن ، وسجود الحوادث الشكر .
وقيل : الشابع يدور حول الخلاء والنجاسات ، والجيعان حول المساجد والجماعات .
والدنيا هي كثرت الأكل ، والزهد في الدنيا هو قلة الأكل .(1/206)


قيل : الجائع نظيف خفيف ، والشابع عاكف على الكنيف .
واعلم يا أخي: ــ أعاد الله من بركات دعائك عليَّ ــ أن العبد إذا اشتغل بهذا النوع من السعادة الابدية والسلامة الدينوية والأخروية حسده الشيطان ــ نعوذ بالله منه ــ غاية الحسد كما حسد على أبيه آدم ــ عليه السلام ــ ، فأخرجه من الجنة ، ويضيق عليه الدينا ، ويترك اشغاله ، ويشتغل خاصة بوسوستة واضلاله حتى يخرجه عن طريق الجنة ، فعند ذلك ينبغي أن العبد لا يتزعزع لمكيدته ويستعين بربه عليه كما يستعين بصاحب الكلب على الكلب .
أمدَّك الله واياي وكافة اخواننا بلطفه وعونه بمحمد وآله .
تم ذلك في سنة خمس وسبعين وسبع مائة .
ومن حكمه رحمه الله تعالى
قال له بعض الأخوان : ما الملك والملكوت ؟
فقال : الملك : ما ظهر لنا ، وما بطن فهو الملكوت .
قال: وقيل : الملكوت خلق فوق السماوات السبع ، وخلق تحت الأرضين السبع ، والله أعلم .
ومن حكمه ما وجدت بخطه :
قال داود ــ عليه السلام ــ : لئن أترك لقمة من عشاي أحبَّ الي من قيام عشرين ليلة قال : وما مرض قلب بأشد من القسوة ، وما اصلحت نفس بمثل الجوع ، وهما زماما الطرد والخذلان .
وقال : يا أخي، حدد السفينة فإن البحر عميق ، واكثر الزاد فإن الطريق بعيد ، وأخلص العمل فإن الناقد بصير .
وقال ــ رحمه الله تعالى ــ : ليكون حظ أخيك منك ثلاث خلال ، لتكون من المحسنين السالمين :
إن لم تنفعه فلا تضره ، وإن لم تسره فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه .
وقال ــ رحمه الله تعالى ــ : قال حاتم الأصم : الكاذب كلب أهل النار ، والحاسد خنزير أهل النار ، والمغتاب والنمام قردة أهل النار .
وحكى لي قال : المروءة شيء هين : وجه طلق ، وكلام لين .
ومن ها هنا أقدع المفصل ، وانزع يدي من القلم خشية الإطالة ، لأن افعاله واقواله وفكره حتى صمته حكم وأمثال ، يعجز عنها الكملة من الرجال الكرم والتقوى .(1/207)


قال صلى الله عليه وآله وسلم :( ثلاثا والله تعالى يقول: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال تعالى: { اعدت للمتقين } ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولاخطر على قلب بشر ، فالمتقون فازوا بشرف الدنيا وكراماتها ، وشرف الآخرة ، وما اعد الله لهم فيها ، طوبي لهم وحسن مئاب .
وأما من اهتدى بهديه ، واقتدا به ، وتعلق بأهدابه ، وواضب على تتبع أقواله وأفعاله ، فهم عدد جم لكني أذكر من ظهر فضله ، ونص ــ رحمه الله تعالى ــ على خيره وعلمه وكرمه وكراماته ، ومن ترك الدنيا وزينتها لأجل رؤيته .
منهم:
السيد ، الأفضل ، العلم ، الأطول ، جمال الدين الهادي بن علي العلوي ، كان من أحب الناس عنده ، وأقربهم منهم منزلة ، عيبة سره ووصيه بعد موته ، وهو سيد عالم في الشريعة المحمدية ، سالك مسلك فضلاء الطريقة ، محقق في علم أهل الحقيقة ، ورعه وزهده مما يضرب به الأمثال .
وروى لي سيدي إبراهيم ــ رحمه الله تعالى ــ : أن الملائكة ــ عليهم السلام ــ تقول : السلام عليك ياهادي ، السلام عليك من ربك .
وغيرذلك .
ومنهم:
الفقيه ، العالم ، المحدَّث ، الورع ، الزاهد ، عبد الله بن قاسم البشاري الظفاري اتخذه ــ رحمه الله تعالى ــ زميلاً في الحضر رفيقا في السفر ، عيبة سره ، وقرة عينة ، ترك الدنيا ، وزهد فيها وعف ، وعلى عوارف شيخه عكف ، أحدث هجرة في قفر بناحية بيت انعم سنحان ، وعمر فيها مساجد بنية شيخه مسجداً وله ، ظهر فضله ، وانتشر ذكره ، وكانت النذور تأتي الى هجرة هذه من أقاصي البلدان ، وهو من اوصياء شيخه إبراهيم ــ رحمه الله تعالى ــ .
ومنهم: الفقيه ، العلامة ، الأفضل ، زميل أمير المؤمنين الناصر ــ عليه السلام ــ ، الفضل بن سعيد من هجرة الأوطان بمدحج ، كان ــ رحمه الله تعالى ــ يعتقد فيه الفضل والفهم والمعرفة بطرائق أهل الآخرة .(1/208)


وكان ــ رحمه الله تعالى ــ يقصده للزيارة الى مصنعة بني بدا ، ويرم له مصالح ، وكفل أولاده بعد وفاته ــ رحمه الله تعالى ــ ، وله كرامات وفضائل تروى وحكم تتلى .
ومنهم: الفقيه الفاضل المفضل عبد الله بن حسن من قرية ( معبر ) اهتدا بهديه ، واقتدى به في ملازمة الخلوات وعدم الكلام في المساجد وفي الأشهر الحرم ، وفي سائر الأيام يتردد في الكلمة ، ويراقب عند لفظه بها ، وله كرامات .
ومنهم: الفقيه المنقطع الزاهد حسن بن موسى بن حسن من هجرة الأوطان ، ترك زينة الدنيا ، واقتدى بشيخه إبراهيم
ــ رحمه الله تعالى ــ في ملبسه ومطعمه وقوله وفعله ، يحيى الليل قياماً ، والنهار صياماً ، ورعه شاف ، وزهده واف ، قدوة لأهل العبادة ، وسراج لأهل الخير والزهادة .
قال إبراهيم ــ رحمه الله تعالى ــ : حسن كإسمه .
حصل له من الألطاف والكرامات مالم يحصل لنا ، وكان زميلا لشيخه في الحضر ورفيقاله في السفر ، وكان والده موسى بن حسن من العلماء الفضلاء الكملة ، وكان ممَّن واخاه إبراهيم وزاره ووقف معه وخالطه على عبادة الله تعالى ، واخوه إبراهيمبن حسن كان من العلماء الأفاضل ، ومن عيون القادة الأماثل ، كان درسهما في العلوم ، وقد وتهما في طاعة الحي القيوم على السيد الإمام المهدي بن قاسم ــ عليه السلام والتحية والرضى والرضوان ــ .
ومنهم: السيد ، الأفضل ، والقلم الأطول ، ينبوع الفخار ، وقدوة الأخيار ، محمد بن علي السراجي ، من مصنعة بني قيس ، من أفاضل دهره وكمَّلة عصره ، ذو بصيرة ودين ، وورع رصين ، وبعد عن الدنيا وأهلها متين .
خالطه الخوف حتى لم يرَ سالياً ، غزير الدمعه في الخلاء والملاء .
فرَّ من الناس وهجرهم ، وعمر هجرة مباركة تسمى (الوشل ) واتخذ فيها مسجداً لخلوة إبراهيم الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ وبنيته .(1/209)


وكان يقف عنده مدَّة ، ويقصد من صنعاء للزيارة ، وهجرته مهاجراً للصالحين ، ومغرس لأهل التقوى واليقين ، والنذور والفتوحات تأتي الى هذا السيد ــ اعاد الله من بركاته ــ من أقاصي البلدان وأدناها ، وله كرامات تروى وحكم تتلى ، علم العلوي فائق ، وزهده رائق ، وشرفه باسق ، وهو عند الله سابق ، وكرمه لائق ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم .
وله ــ عليه السلام ــ : ولدان فاضلان زاهدان ، لزما طريقة أبيهما المثلا ، وزهدا حتى عدا من أئمة الطريق ، وقدوتا أهل التحقيق إبراهيم وأحمد ــ وفقهما الله لأحسن كل مقصد بمحمد وآل محمد ــ .
ومنهم العبد ، الصالح ، الناشيء على العمل الصالح ، عبد اللطيف ، ذو الحنين والوجيف والخوف ، وخفقان القلب والرجيف ، قرت عين سيدي إبراهيم ، منيف .
من أشد الناس خوفا ، وأكثرهم بكاء ، وأتركهم لزينة الدنيا ، لباسه شملة غبراء ، وراسه لايغطى .
كان حي إبراهيمي حاذرعليه الموت من عظم خوفه ، وتارة يجده ملقا فيحسبه قد مات لما عرف من شدة خوفه ، وتعلق قلبه بحب الله والشوق الى لقائه .
وروى لي سيدي إبراهيم ــ رحمه الله تعالى ــ قال : اخرج منيف حبا مقليا للذر في قفر فسمع ، قائلاً يقول : ( والسابقون السابقون ، اولائك هم المقربون ) .
وكذا اخو منيف في الله ، وزميله في طاعة الله ، محيي الليالي بالبكاء في المحراب من خوف الباري محمد الشماحي ازم لطريقة شيخه إبراهيمفي الملبس والمطعم والأوراد الصالحة ، لطيف الشمائل ، بسَّام في وجوه كافة الناس.
إذا تلي القرآن المجيد عكف الخاص والعام عليه ، ومقتدون للصلوات خلفه الإخوان والمسلمون .(1/210)

42 / 50
ع
En
A+
A-