قال ــ إملاء في مواقف عدة ــ : فجمعته لأخيه العالم ، الفاضل ، الزاهد ، العابد ، سعيد بن علي الشهابي الساكن ( بثلا ) كان من علماء الشريعة ، وفضلاء أهل الطريقة ، من تلامذته ــ رحمه الله تعالى ــ ، بلغ معه الزهد غاياته والورع نهاياته ، وأحرق قلبه الخوف حتى الموت ، حكى لي ــ رحمه الله ــ : أنه تزود من مكة الى صعدة صاعا من قلى شعير ، وجمع حجارة عظيمة علىظهره المبارك في ثلا وعمربها مسجداً كبيراً ، وزاد آخر وزاد مئذنة ، وزاد خانكان ، وهو الآن مسجد مقصود مهاجراً للصالحين والعابدين والزاهدين .
وقبره ثمة مشهور مزور وببركته وسره ، وقوفات فتح الله بها لهذين المسجدين في حياته وبعد وفاته ، ما يسد ، والله أعلم حال من يقف فيه ويقصده من الصالحين وذوي التقوى واليقين .
روى لي الأخ الصالح يحيى بن أحمد الصنعاني ، وكان من تلامذة إبراهيم الكينعي ، قال: قلت لسيدي الفقيه سعيد ــ رحمه الله تعالى ــ : يا سيدي هل رأيت في عمرك الخضر ــ عليه السلام ــ ؟ قال : كنت في ثلا فدخل على رجل عليه سيماء الصالحين ، ومنظر الخائفين ، ذو شيبة وضية ، فسلم علي ، وصافحني ، وقال : أتأذن لي آكل من هذا العيش ؟
فقلت: نعم .
فقال : أتأذن لي أن أشرب من هذا الكوز ؟
قلت: نعم .
فأكل ثلاث لقمات وشرب ثلاثة أنفاس ، فقلت: من أين أنت ؟
قال : من العرب ، اتيت من زيارة الفقيه محمد ين حسن السودي ، ــ نفع الله به ــ .
فخرج من عندي ، وتنبهت أشك أنه الخضر .
قال ــ رحمه الله تعالى ــ : ما صار أحد من الأولياء ، والزهاد ، والأبدال ، والأوتاد ، من وقت زين العابدين الى وقتنا هذا الا بأمور عشرة :
الأول : طهارة الباطن والظاهر :
أمَّا الظاهر ، فالتلوث بالنجاسات لا يصلح للمناجاة ، والعبد مفتقر الى الله في كل طرفة ولحظة ، فإن الله يحب التوأبين ويحب المتطهرين .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( الوضوء سلاح المؤمن ).(1/201)
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( من أصابته مصيبة وهو على غير وضوء فلا يلومنَّ الا نفسه .)
والوضوء على الوضوء ، نور على نور ، فإذا داوم العبد على الطهارة يوشك أن تتلألأ فيه الأنوار الربانية ــ إنشاء الله تعالى ــ .
والباطن : أن يطَّهر قلبه من الرذائل ؛ من الغل والحقد لكافة المسلمين ، وأهل التوحيد والقبلة المحمدية ، ومن الحسد المهلك . قال بعض الحكماء : قاتل الله الحسد فما أعد له بداً بصاحبه فقتله وهو يأكل الحسنات كما تحرق النار الحشيش ، والرياء والتكبر على المسلمين بالقول والفعل والإعتقاد ، ومن التكبر: أن يعتقد كمالا في نفسه أبداً ، الى غير ذلك من سوء الأخلاق .
الثاني : لزوم الخلوة وهي العزلة من الناس ومن الشواغل ، وإذا كانت في بيت مظلم فهو اجمع لنور القلب .
كان صلى الله عليه وآله وسلم : يحبب إليه الخلوة قبل النبوة ، وكان يتحنث بجبل حراء الليالي والأيام قبل النبوة بخمسة عشر سنة ، كماروي .
وكما قال الخليل إبراهيم ــ عليه السلام ــ : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا } لأن النفس تأنس الى الناس واللهو واللعب ، فإذا حبسها العبد عن الناس واللهو واللعب ضعفت واضمحلت ترهاتها ، فحينئذ يتنور القلب ، ويظهر برهانه كما قال علي ــ عليه السلام ــ : العبادة حرفة ، حانوتها الخلوة ، والخلوة قبر الحي .
ومن حبب الله الخلوة إليه فقد استمسك بعمود الإخلاص ــ إنشاء الله تعالى ــ .
الثالث: الصمت الا عن ذكر الله تعالى ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( وهل يكب الناس على مناخرهم في النار الا حصائد السنتهم . )
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( الصمت نصف العبادة ).
لأنه ينجو بالسكوت عن الكذب والنفاق .
وأُمر النبي زكريا بالسكوت فقال :
{ آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام } .(1/202)
ونطق عيسى ــ عليه السلام ــ وهو طفل ، فلا يبعد ان العبد إذا سكت عن فضول الكلام تكلم به القلب ، ونورَّه الله تعالى ، قال الله تعالى: { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب }{ ولقد آتينا لقمان الحكمة }.
قيل : الصمت الا عن المهم .
واللسان إذا سكت نطق القلب ، فاشتغل بطاعة الله تعالى وذكره وفكره .
الرابع : الصوم ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :( الصوم جنة ، والجنة تدفع كل البلاء والآفات ) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( لكل شيء مفتاح ومفتاح العبادة الصوم ) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( نوم الصائم عبادة ، ونَفَسَه تسبيح ، وعمله مضاعف ) .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( ما من عبد اصبح صائما الا فتح الله له أبواب السماء ، وسبحت أعضاؤه ، واستغفر له أهل السماء الى أن توارى الحجاب ) .
والصوم يؤثر في تقليل الأجزاء الترابية ، والمائية ، فيصفوا قلبه من الدين والغم والغبن ، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله سبعين مرة ) .
الخامس : دوام ذكر الله تعالى ، مع حضور القلب بالقوة الشديدة من غير رفع الصوت ، بحيث يدخل أثره في العروق ، فإن الشيطان يخنس من الذكر .
وأفضل الذكر : ( لا إله إلا الله ) ، لقوله تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب ، والعمل الصالح يرفعه } .
فقول:( لا إله إلا الله تصعد الى الله بغير واسطة ، والعمل الصالح ترفعه الملائكة .
والذكر نور ، فإذا استولى الذكر على القلب تنور القلب وتنور عيناه ، فيرى في الظلمة ما لم يكن يرى ، وهذا الذكر يكون للمبتدي ، فأما المنتهى فيشتغل بالذكر وقرائة القرآن والفكر لأنه أفضل الاذكار .
السادس: التسليم والرضى كما قال تعالى: { اذ قال له ربه أسلم } ، وكما قال تعالى: في مدح الصحابة: { ومازادهم إلاّ إيمانا وتسليما } ، كما قال تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } .(1/203)
وكما قال ــ تبارك وتعالى ــ :{ ومن اسلم وجهه لله وهو محسن } .
وكما قال تعالى :{ ومن يسلم وجهه الى الله } .
ويدخل فيه التفويض ، والتوكل ، والانقطاع ، والرضا بقضاء الله المبرور من الفقر ، والمرض ، والحزن ، والخوف ، والقبض ، والبسط ، والأنس ، والهيبة ، والمعرفة ، والمحبة ، والمحو ، والإثبات ، والبعد ، والطرد ، والقرب ، والتقريب .
فإذا كان كذلك ظهرت شمس القلب وشمس الإيقان ، وشمس الروح الريحاني ( الروحاني ) ، وحينئذ تهرب عساكر الشك والريب وتنزل الملائكة حول القلب ، وحينئذ يكل اللسان عن وصف الله وعظمته وجلاله ، ويقرأ حينئذ
: { وما قدرو الله حق قدره } .
السابع : نفي الخواطر الرديئة ، كما قال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون الى أولياءهم } .
وكما قال: { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم .. } الآية .
وكما قال صلى الله عليه وآله وسلم :( ليس أحد الا ومعه ملك وشيطان: فلمة الملك إيعاد بالخير ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر ) .
لقوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا }.
فحينئذ الخواطر اربعة :
أولها : خاطر الحق ــ سبحانه وتعالى ــ وهو يقع في القلب من غير سبب بل يبقى القلب به مطمئنا ، ونوع يأتي وهو : الألهام كما قال تعال: { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } .
والشيطان لا يحدث في القلب الا الوسوسة ، نعوذ بالله منه .
وثانيها : خاطر القلب كما قال تعالى { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة } أي: مطمئنة منطلقة من الشك والريب .
وثالثها : خاطر الملك ، وهو الذي يثلج به قلب المؤمن ، ويطمئن ، كما قال الصحابي : كان رسول الله ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ: جواد: وكان أجود ما يكون في شهر رمضان ، وان جوده كالريح المرسلة .(1/204)
ورابعاها :خاطر الشيطان والنفس فإنه يدعو الى الضلالة غالباً فإذا دعاه الى ذنب ودافعه العبد بالمجاهدة دعاه الى ذنب آخر ، وله لطائف في الأضلال ، فيضل كل وأحد بما يليق به ، والنفس توافقه ، فتمني صاحبها فتقول : الأيام والأعوام كثيرة فتعلَّم الآن وعسى أن تعمل بذلك في آخر عمرك.
الى أن تأتيه ا لمنية بغتة .
كما قال بعضهم: جائني الشيطان لما لزمت الخلوة ثم قال: إنك رجل عالم وعلمك بالإنقطاع عن الناس يذهب . فدافعته ، فجائني من طريق فقال: إنك رجل عالم فلو جمعت كتابا فسميته: ((حيل المريد على المريد )) كان ذخرا لك في الدنيى والآخرة.
فهممت بذلك , فنبهني عليه الشيخ ،وقال : هذا الشيطان يريد أن يشوش عليك الخلوة فاحذره .
الثامن : ربط القلب بالشيخ لأنه رفيق في الطريق ، ودليل من التعويق
كما قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين }.
وكذا لا ترى ، صوفيا محققا ولا مريدا متطرقا إلا وهو آخذ طريقة الزهد والولاية والعلم الحقيقي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ ، كالجنيد ، والبسطامي ، وبشر الحافي ، وإبراهيم بن أدهم ، وغيرهم من أئمة الطريقة .
كما قال صلى الله عليه وآله وسلم : (مثل الجليس الصالح كالداري (1) ) .
وقد قيل : من لم يكن له إمام وشيخ فإمامه وشيخه الشيطان .
والذي يصلح شيخا من يعرف طريق الحق ويسلكها ويعرف مخاوفها ومضارها ومنافعها ، والمنال والعلامات والأحوال والكرامات .
التاسع : ترك النوم إلامن غلبة ،وحد الغلبة: أن يتشوش عليه الذكر والقراءة والصلوات ، فحينئذ ينام حتى يعقل مايقول كما قال تعالى: {كانوا قليلا من الليل مايهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون }.
__________
(1) ـ العطار .(1/205)