قال: يراعون الظلال بالنهار لصلواتهم كما يراعي الراعي الشقيق غنمه ،ويحنون الى غروب الشمس كما تحن الطير الى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنهم الليل واختلط الظلام ، وفرشت الفرش ، ونصبت الاسرة وخلى كل حبيب الى حبيبه ،نصبوا لي أقدامهم ،وافترشوا لي وجوههم ، وناجو ني بكلامي ، فبين صارخ وباكي , وبين قائم وقاعد ، وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبي ، أول ما أعطيهم ثلاثا ،
الاولى ــ أقذف في قلوبهم من نوري فيخبرون عني كما أخبر عنهم
الثانية ــ لوكانت السموات و الأرض في موازينهم ما أستكثرتها
الثالثة ـ أقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ماأريد أن أعطيه ، ياموسى أنا عند المكسرة قلوبهم من أجلي
الحكاية الثانية:
قال شقيق بن إبراهيم البلخي لحاتم الاصم رضي الله عنهما : منذ كم صحبتني ؟ قال منذ ثلاث وثلاثين سنة قال فماذا تعلمت مني في صحبتي قال تعلمت ثمان مسائل قال شقيق إنا لله وإنا إليه راجعون ذهبت أيامي معك سداً قال حاتم ما تعلمت غيرها قال شقيق : هاتها حتى أسمع منك فقال حاتم : الاولى نظرت الى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يحب محبوباً فهو ومحبوبه الى عند القبر فإذا وصل القبر افترقا ودفن وحده فجعلت الحسنات ومحبوبي فإذا دخلت القبر دخل معي قال : أحسنت فما الثانية ؟
قال نظرت الى هذا الخلق فرأيت من كان معه شي له قيمة ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت الى قول الله (ما عندك منفد وما عند الله باق فجعلت كلما وقع في يدي من شيء له قيمة ومقدار وجهت به إليه كيما يبقى لي محفوظاً عنده قال : احسنت ياحاتم فما الثالثة ؟
قال نظرت الى قوله عز وجل ( فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى 0( فعلمت أن قوله حق لاريب فيه فاجهدت نفسي في دفع الهوى حتى استقامت على طاعة الله ، قال أحسنت فما الرابعة .؟(1/16)
قال نظرت الى هذا الخلق وكل منهم يرجع الى الحب والمال والشرف فإذا هولا شيء ونظرت الى قوله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) فاتقيت الله وخفته ، قال: أحسنت يا حاتم ، فما الخامسة ؟ قال نظرت الى هذا الخلق يطعن بعضهم على بعض ، ويغتاب بعضهم بعضاً فعلمت أن أصل ذلك الحسد ، ونظرت الى قوله تعالى ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ) فعلمت حقاً أن القسم من الله فتركت الحسد وأحببت الخلق ، قال أحسنت ياحاتم ، فما السادسة ؟ قال: نظرت الى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ، ويقاتل بعضه بعضاً فنظرت الى قوله تعالى( إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدوا ) فعاديته ،واحترزت منه ،واخذت حذري منه لأن الله قدشهد عليه أنه عدولى فعاديته ،وتركت عداوة الخلق ، قال احسنت ياحاتم ، فما السابعة ؟ قال نظرت الى هذا الخلق كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة ، في جهد نفسه ويترك المفروض عليه ، والطاعة ويتعب نفسه ،ويدخل فيما لايعنيه ثم نظرت الى قوله تعالى ( وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها ، كل في كتاب مبين ) فعلمت أني واحد من هذه الدواب المضمون رزقها فرزقي مضمون ،فاستغلت بالله وتركت ما ضمنه ، قال احسنت ياحاتم ، فما الثامنة؟ قال نظرت الى هذا الخلق ، فاذاهم يتوكل أحدهم على صنعته والاخر على تجارته , والاخر على صحته فكل مخلوق قد توكل على مخلوق مثله ،فرجعت الى قوله تعالى ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره ) فتوكلت عليه ، قال احسنت ياحاتم ، قدجمعت في هذه المسائل علم التوراة ،والانجيل ،والزبور ،والفرقان العظيم .(1/17)
وهذا شقيق وحاتم من التابعين ، روى أبوبكر الصديق تولا الله مكا فئته عنه (ص) قال يا أبا بكر قل لأمتي يكونوا على أثري ، وأثر أصحابي ،فإني لم أبعث فاجراً ولا خوانا ، ولكن بعثت داعياً وهادياً ورحمة ، وما أمرني ربي بجمع الدينار والدرهم ،ولكن قال:( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .
الحكاية الثالثة :
روى أبوطالب المكي في كتاب <قوت القلوب وطريق المحب الى المحبوب > أن أحمد بن الحواري ، دخل يوماً على سليمان الدار فراه يبكي فقال ما يبكيك ياشيخ الصدق ؟ فقال :ويحك يا احمد إنه إذا جن الليل وافترش أهل المحبة أقدامهم وجرت دموعهم على خدودهم ، أشرف الجليل عليهم ، فقال بعيني من تلذذ بكلامي ، واستراح بمناجاتي ، فبي حلفت لأنظر إليهم بعين رضاي ،وأبيحهم رياض قدسي ،فعلامة حب الله يا أحمد حب القرآن ، وعلامة حب الله وحب القرآن حب السنة ، وعلامة حب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الا خرة بغض الدنيا ، لا تأخذ منها شيئاً ، إلا زاداً وبلغة الى الآخرة ،وتقديم أمر الآخرة على أمور الدنيا من كل ما تهوى النفس ، والمبادرة الى أوامر الحبيب ،والتذلل للعلما ء به ،والعاملين له ، ثم التعرز على أبنا ء الدنيا المؤثرين لها ،والبعد عنهم . ولله القائل :
يا نسيم القرب ما أطيبك ذاق طعم ألانس من حل بكا
أي عيش لأناس قربوا قدسقوا بالكأس من مشربكا
الحكا ية الرابعة :(1/18)
قال أبو طالب المكي : كان بعض المجاورين بمكة عنده دراهم أعدها للإ نفاق في سبيل الله قال فرأيت ليلة فقيراً يطوف بالليل .......والسمت فكنت أطاء أثار قدميه وأمشي خلفه فلما قضى طوافه وقف بالملتزم فسمعته يقول : دعا خفيفاً جائع كما ترى عريان كما ترى فما ترى فيما ترى ؟ يامن يَرا ولا يُرا ، وعليه خلقان رثاث فقلت في نفسي ما أجد لدراهمي موضعاً خير من هذا فجئته بالصرة فدفعتها إليه ، وقلت أنت هكذا مسكين ، تكون هذه معك تنفقها على نفسك ووضعتها علىطرف إزاري بين يديه ،فأخذ منها خمسة دراهم فقال أربعة ثمن مأزرين ،ودرهم أتقوته ثلاثا ،ولاحاجة في سائرها ، قال فرأيته الليلة الثانية عليه مأزران جديدان ، فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إليّ فأخذبيدي فأطا فني معه اسبوعاً كل شوط في جوهر من معا دن ألأرض يتحشحش تحت أقدامنا الى الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر لم يظهر للناس ، فقال هذا كله قدأعطيناه فزهدنا فيه ونأخذ من الدني الخلق أحب الينا لأنه أحب اليه .
الحكاية الخامسة :
رُوِي: أن رجلا زار أخاً له في الله في قرية نائية فلقيه نبي من أنبياء الله فقال له: الى أين تريد ؟ فقال: أزور أخاً لي في هذه القرية ، قال: هل بينك وبينه رحم قال: لا ، قال : فهل عليك له نعمة ؟ قال: لا قال :فهل ترجوه لمنفعة دنيا قال :لا إلا اني أحبه في الله ، قال النبي: إنَّي رسول الله إليك يقول لك: إن الله قد أحبك كما أحببته فيه .
وعن الحسن البصري قال: كان بعض السلف يؤجر نفسه في سبب أولاد أخيه في الله ، فكا ن احدهم يخلف أخاه في عيا له أربعين سنة ما يفقدون ألاوجهه .
قال الفضيل : بقي من لذات الدنيا ثلاث: لقاء الأخوان ، وصلوة الجما عة ، وقيام الليل .
وقال آخر: أخ لك في الله كلما لقيك علمك خيراً ، خير لك من أخ كلما لقيك حط في كفك مثقالا .
الحكا ية السادسة:(1/19)
رَوَى سعيد بن المسيب قال : دخلت علىعلي بن الحسين زين العابدين عليهم السلام عند طلوع الشمس ،وهو قائم يصلي كأنه ساق شجرة ، قد ثفنت جبهته ، وانخرم أنفه ،فقلت: ما هذا الإجتهاد لولم تخلق النار إلا لك ؟ فقال: ما يدري علي بن الحسين الى جنة يصير أم الى نار ،ثم بكا ولم يزل ساجدا ً حتى زالت الشمس ،وهو يقول : لا إله ألا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله إيمانا وصدقا ، لاإله إلا الله تعبداً ورقا ، فقال سعيد : أشهد ياعلي بن الحسين أنك ممن يستشفع به الى الله ، ثم قال له علي بن الحسين : قد ذقت حلاوة الدنيا ،وفتحت لي بهجتها ، واستوي عندي رطباً ويابسا ، وذهبها وفضتها ،وكأني أنظر الى عرش ربي بارزأ والى أخل الجنة كيف ينعمون ، والى أهل النار كيف يعذبون ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وقليل ما أنا فيه من حق ربي .
وهذا سعيد بن المسيب الراوي رُوِي أنه دخل الكعبة فأحرم فيها بركعتين ختم فيها القرآن شكراً لدخوله بيت الله .
وروي أن بعض من حضر مقام علي بن الحسين عليهم السلام ذكرخفض عيش الملوك وتنعم أهل الدنيا بنعم الله تعالى ، فقال : لاتنظروا الى حفض عيش الملوك ولين لباسهم ، ولكن انظروا الى سرعة ظعنهم وشر منقلبهم ، وأملىعليه هذه الابيات :
ملوك الأرض حكام الرعايا ونحن عبيد خلاق البرايا
أدمنا عيشنا بجريش ملح إذا أكلوا الثرايدوالقلايا
شددنا وسطنا بحبال ليف إذا لبسوا الخوايصرُ الجلايا
وإن لبسوا الشفوف معلماتٍ فخرنا بالمرقع والعبايا
وإن سكنوا فصوراً عالياتٍ سكنا في المساجد والزوايا
غداً يتبين السادات منَّا وينظرأينا أوفاعطايا
الحكاية السابعة :(1/20)