... وكان أشدَّ الناس مودَّة لآل محمد وأكثرهم تعظيماً لهم وتوقيرا ، سمعته ــ رحمه الله ــ يقول: إذا لم يكن في حلقة قرائتنا من أهل البيت أحد ، أعتقده خداجا ونقص ، وكان تمضي أحكامه على وفق مراد الله فمن حكم عليه فكأنه من الرضى بقوله ، وفعله حكم له والمحكوم عليه والمحكوم له معترفان بفضله شاهدان بعدله وذلك ظاهر مشتهر ، وناهيك بها من كرامة تروى وآية تتلى ، وكانت = الفتأوى = ترد عليه من اليمن الأعلى والأسفل ومن تهامة ومن علماًء الحنفية والشافعية ومن عدن وجبلة وتعز لأنه ــ رحمه الله تعالى ــ أحاط بفقه الفقهاء ودرس فيه في زبيد وغيرها على علماًء الحديث والفقه وما عرف بمجتهد بعد الأمام يحيى بن حمزة في الفقه الا هو ، فكانت الفتأوى تشغله وتهمه ويجوَّبها ليلا لأزدحام الأوراد عليه في النهار ولو أفردت كتاباً بسيطا فيما أعرف من علمه وفضله وزهده وورعه وخوفه وخشوعه وأوراده الصالحة ، فصلا عن غيري لما أحطت باليسير من سيرته ، لكن قد عرض ذكره ولي فيه غرض ، وحقه عليَّ واجب مفترض ، لأني لم أبلغ التكليف إلا وأنا من جملة درسته ، وممن تعلق بمودته وأشرب قلبي بحبه ، فجزاه الله عني وعن كافة المسلمين أفضل الجزاء وبلَّغه من رضاه وعفوه أقصا المنا بمحمد المصطفى وأله أهل الشرف والوفاء .
... وكانت وفاته ــ قدس الله روحه ونور ضريحه ــ ، في سنة إحدي وتسعين وسبعمائة وقبره ــ رحمه الله تعالى ــ فريب من باب اليمن بصنعاء اتخذ عليه الشيخ الصالح أحسن بن محمد بن شليف مشهدا وتقرب الى الله بذلك ، ومشهده مقصود مزور ، يتوسل الى الله بقبره في نيل الأمنيات ودفع البليات .(1/146)


... (وكتب بيده ) في لوح على قبره هذه الأبيات الحاكية لحاله في الحال والماضي والمستقبل ، الفقيه الأمام العالم الفاضل جمال الدين على بن صالح بن محمد العدوي ، وكان من أكمل أهل زمانه في العلم سيما علوم القرآن ، فهو سيد أوانه فيها ، زاهد عابد فاضل كامل ــ ــ رحمه الله تعالى ــ عليه ورضوانه وهي هذه الأبيات :
... ... أيا زائراً للقبر جدَّد به العهداً ... ولا ترى من تكرير زورته بدا
... ... وإن كنت لا تدري بما ضم لحده ... فدونك فاعلم ما الذي سكن اللحدا
... ... حوى القبر هذا العلم والحلم والتقى ونور الهدي والزهد والجود والمجدا
... ... فيا وحشة الدنيا لفقد ضيائها ... بمن كان طودا للشريعة فانهدا
... وخلَّف ولدين فاضلين عالمين كاملين ، اتبعا طرائقه واقتفيا آثاره وانتفعا بما علمهما ، فرشدا وأرشدا ، وهديا فهديا ، وصلحا فأصلحا ، عفا عن الدنيا الدنية وطهَّرا أخلاقهما من المرتع الوبية ، مكارم أخلاقهما تضرب بها الأمثال ، ولطف شمائلهما يعجز عنها الكملة من الرجال ، جمال الدين الأكبر محمد بن الحسن محلقا عليه في فقه آل محمد أنطاره وسجاياه مثل أبيه وورعه وزهده واجتهاده كأبيه ، أقضيته وأحكامه ماضية في مدن الإسلام ، وهو أقضى قضاة علماًء الزيدية الكرام ، تَفِد عليه الفتأوى كما كانت تَفِد من الأمصار الى أبيه .
... وعماد الدين يحيى بن الحسن من أفاضل وقته ، وعلماًء عصره ، محلقا عليه في فقه أل محمد ، ذو ورع ، وتقوى ، ودين ، محبب الى كافة المسلمين ، لطيف الشمائل الى القريب والبعيد ، مولَّع بكل عبد منيب ، اتخذهما إبراهيم الكينعي من أجل اخوانه واحلهما في ديوان أحبَّابه وخلانه وأشركهما في أدعيته وصلواته كما مرَّ ــ رضي الله عنه ونفع بهم ــ .
... وأما الفقيه الأمام شمس الملة المحمدية
وتاج العصابة الزيدية علي بن عبدالله بن أبي الخير ــ رحمه الله تعالى ــ(1/147)


: فهو سلطان العلماء الأبرار ، وملاذعلماًء الأمصار ، لم يبلغ أحد في وقته مابلغ ، ولا أنتهى الى ماأنتهى ، جمع الفصائل عن يد ، وحاز الكمال وانفرد ، لم يبلغ الحلم حتى قد صار عالماً محلقا مصنفا ، نقل كتاب شرح الأصول غيباً وفرأه شرفا ونصف شرف ، وبلغ الحلم هكذا روي لي ــ رحمه الله تعالى ــ ولم يبلغ الى عشرين سنة الا وقد صار مجتهدا في العلوم في أصولها وفروعها وجليها وغامضها وله ــ رحمه الله تعالى ــ في كل فن تصنيف وموضع في الصولين والفروع والرد على المجبرة والفرق الإسلامية والملاحدة وعلوم المعاملة والزهد ، وحكايات الصوفية المحمودة منها والمذمومة الى زهاء خمسة وأربعين موضوعا ، ومن طلبها وجدها ، واستضاء بنورها ، واستصبح في ديجور جهله بضيائها ــ انشاء الله تعالى ــ ، فلمَّا بلغ من العلوم المنتهى ، وفاز منها بالقدح المعلا جاءه ، مخاطب التوفيق والأرتقاء الى سنام التحقيق ، العلم يهتف بالعمل ، فإن أجابه وإلا ارتحل ، عكف على كتب أهل التقوى واليقين واظب عليها عدة من السنين ، وراض نفسه رياضة يعجز عنها من عرفها وسمع بها ، دقَّق فيها وحقَّق ، وصنَّف فيها وراق وأشرق ، فهو أمام أهل الشريعة وشيخ أهل الطريقة ، واستاذ أهل الحقيقة .(1/148)


... رَوَى لي إبراهيم الكينعى ــ رحمه الله تعالى ــ قال : إنَّ عبد الجبار قاضي القضاة أبلغ الناس في علم الكلام وعندي أن علي بن عبد الله أبلغ منه وأغزر علماً واعظم فهما ، لكنه في زمان أهله عقق ، أو ما معناه هذا ، وسمع علي بن عبد الله تلقين الشهادة وكيفية الطريقة الى الله على المقري العلامة شمس الدين بركة أهل المذاهب من المسلمين أحمد بن محمد بن النَّساخ ــ رحمه الله ــ بسنده الى جعفر الصادق ، وزين العابدين الى علي ــ عليهم السلام ــ الى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسمع إبراهيم الكينعي ماذكرعلى الفقيه الأمام علي بن عبد الله وأخذ عنه التلقين وكيفية الطريق الى الله واخلاص الذكر والعبادة ، فهو شيخ إبراهيم في زهده وورعه ، وقد وته في أفعاله وأقواله ، وكان لا يفارقه الفينة بعد الفينة لما يرد عليه من مسائل الشريعة وطرايق أهل العبادة والذكرو مايرد عليه من أحوال المريدين ، وما يطرأ عليهم من الشبه ، فيحلها بعلم وتجربة وكيفية التلقين موجود في خزانة إبراهيم الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ ، وها أنا أذكر طرفا من ذلك من املائه علي اخوانه ، وسمَّاه المقدمة والوظائف في طريق المريد والطائف :
... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلي الله على محمد وآله ، أعلم ــ أرشدك الله وإيانا ــ من نظر في عاجل أمره وعاقبة حاله لم يقر به قرار ، ولا يؤيه دار ، وأنه ليطمئن الى الفرار ، ويأوي الى الفيافي والقفار ، ويأنس بالسباع ، وينفر عمَّا تتوق إليه الطباع . إذ العاقل إذا شاهد الموت والفوت وما بعدذلك من الأهوالےلابد له منےأن يبےي نفسه ويوطَّنهےےعلى أحد ثلےثة أقسام : [الأےل] ےأما أ ےينكر ذلك وهذا هو ےلهلاك الأكبر مع أنےالعےلأےلا ےقبله ، وهيهات ما أبعده وهو مستحيل .
... [الثاني] : أن يقربه ولا يتحرز منه ولا يعد له عدة فهذا أقرب .(1/149)


... [الثالث] : أن يتحرز ويعد له فهذا هوالسعيد ، فإن قيل: كيف لا يختار العقلاء مع كمال عقولهم طريق السعادة ؟ ، قلت: منعهم بل أعماهم حب الهوا وطول الأمل كما قال (ص): [ في حاشية الأصل هكذا: الوحقيقة الأمر المهلك انه حب الدنيا كما قال ( ص ) ] ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) ، ولقد تكلم العلماء في ذلك كلأما وعرفوا أن الخطأيا من حب الدنيا ، فإن قلت: فما الدنيا ؟ قلت : قد قيل: فيها معان كثيرة لكن الذي يليق بالحال أن يقول: الدنيا ما بعَّدك عن مراد الله وعن الأفضل مما يريده ، فإن قيل وما مراد الله والأفضل ؟ ، قلت: الطاعات كلها مراد الله ، لكن بعضها أفضل من بعض ، والأفضل يختلف بالأزمان والأشخاص والأحوال والأفعال وغير ذلك من القرائن التى لا حصر لها والبعد عن الأفضل نقص فإن قيل : فبما أخرج حبَّ الدنيا عن قلبي ؟ قلت بمعرفة آفاتها ووخيم عواقبها مع أن التكليف لم يرد بإزالة شهوة الشيء عن القلب لكن بالصبر عنه والكف وسياسة النفس حتى يرجع المشتهى مكروها ، وتكون الرغبة والشهوة في الأمور النافعة لا الضارة ــ بعون الله ــ ، فإن قلت: فبما أصل الى ذلك ؟ قلت تصل ــ انشاء الله تعالى ــ بقطع ثلاث عقبات، نذكرها على سبيل الجملة ــ انشاء الله تعالى ــ
... الأولى ــ عقبة الصبر وهي الصبر على القيام بالواجبات واجتناب المقبحات وعلي ما آتاك من الإمتحانات من قبل الله أو من الخلق ومجاهدة النفس علي ذلك أولا فإنه يعود من بعد ذلك رضاء الله ــ خالصا بعون الله تعالى ــ .(1/150)

30 / 50
ع
En
A+
A-