قلعتهم أحاطت بهم جنود الإسلام فاقتلعتهم ، وتزلزلت بهم القلل الشوامخ ، حتى وضعتهم وكان هذان الموضعان منشاء تدليسهم ، وموضع أقاضتهم ، وتأنيسهم ، وهما عتبه الآلحاد ، ومنهما طرأ مذهبهما الخبيث في جميع البلاد فنقول: الحمد لله رب العالمين ، اكمل الحمد على كل حال ، وهذا وإن كان من أنواع الشكر فهو بالأضافة الى الشكر الحقيقي غير معدود ، ونحن مقصرون عن الشكر الكلي ، وهيهات أن نتسنم الى حضيضه لنكوص الجد وضعف المريرة وتلويث القلب بالشعب الدنيوية ، وملابسه الفكرة لأحوال العاجلة ، إذا كان الشكر من صفات السالكين ، ونحن منهم بمعزل وهم يقولون إن الشكر لا ينتظم الامن ثلاثه: أصول علم ، وحال ، وعمل ، وعلى التحقيق لاحظ لنا فيها الا في واحد منها فأما نفثات اللسان في بعض الأحيان ، وجنوح الجنان في أوبة من الزمان ، فهذا شكر الوكلة وببضاعة الثكلة ، وهو صفتنا الغالبة ، واحوالنا المتناسبة ، وعسى ولعل فقد ورد في الأثر: ذنوب المقر بين حسنات الأبرار ، وما هذا معناه ، في بعض الاثار أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل : كيف أصبحت ؟ قال: بخير يارسول الله ، فأعاد السؤال عليه ، وأعاد حتى قال : في الثالثة بخير أحمد الله واشكره فقال صلى الله عليه وآله وسلم : هذا الذي أردت في بعض حقائق الشكر عن الجنيد: ــ رحمه الله تعالى ــ ، الشكر أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة ولعلنا قد أخذنا من هذه الحقيقة بنصيب ، وليعلم أطال الله عمره أن هذه النعم الجليلة مع حسن العقيدة وصلاح النية وإنتفاء الشوائب حقيرة بالإضافة الى مأوعد الله، وهذا كما ورد في الحديث ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) ، ونعوذ بالله أن يكون ثوأبا معجلاً فلاجرم يسر مأوقع من الفتوح للمسلمين على أيدينا للزلفة عند الله ولما وعد المجاهدين بأن ثوابهم على قدر احوالهم وتأثرهم ، سيما في مثل هذا الزمان فإن أبواب الشر فيه مفتحة ، وأبواب الجنة مغلقة ، فوقوع مثل هذه(1/131)
الأمور فيه كالخارق للعادة لمن تأمل وعقل ، فأما ما يعتقده الناس من السرور بشدة الوطأة وانبساط الدولة فهذه نقمة نعوذ بالله منها ، وماذا يفعل الحليم بملك فايل ، وظل زايل ، تزول زهرته ، وتبقى تبعته ، مامن عبد وأنعم ( في ن: [ أمعن ] ) النظر في أحواله الا رأى من الله نعماً كثيرة تخصه لا يشاركه فيها الناس كافة ، وقد ورد في الأثر: أن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه ، ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر ، والإعتذار من قلة الشكر شكر ، والإعتراف أن النعمة ابتداء من الله من غير استحقاق شكر ، وحسن التواضع بالنعم والتذلل فيها شكر ، وعلى الجملة فأحوالنا ضعيفة ، ونفوسنا مهينة ، وأمورنا مشوبة عينا وحكما ، إذ قلوبنا مزابل الشهوات ، وملاعب الشيطان ، فالله المستعان والله المستعان .
... وأختصر من كتاب كتبه الى ولده على ــ عليه السلام ــ ثبت الله أحوال الولد جمال الدين على بن أمير المؤمنين ، ووفَّقه لمحاسن الخلآل ، وزيَّنه بالإحاطة بعلم الحرام والحلآل ، وأكرَّمه بالورع والتقوى ، وألزمه سمت الحق في الصمت والنجوى ، وهداه الى الخيراًت ، وذاده عن المكروهات والمحظورات ، وأتحفه بشريف السلام .(1/132)
... أعلم يابني: أنك في غرة اجتماع للشهوات ، وقاموس دواعي اللذات ، وعباب صولة الشيطان نعوذ بالله منه ، وقوة مضرة النفس المركبة في الإنسان ، وارتفاع منار الهوى ، وشدة اضطراب الأهواء ، وضعف العقل المانع ، وخَوَر الحجا الوازع ، والأخطار العظيمة ، والمخأوف الظاهرة الجسيمة ، سيما في هذا الزمان ، فإن الخير قد خَلِقَ ، إن هذا الدين بدأغريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، وأنت الآن بين أمرين ، إن صنت نفسك عن الهلاك وزممتها بعنان الإمساك ، وقذعتها عن الزلل والأرتباك ، فعسى أن تفوز بالحظ ، الأسنى وتنال من الله الزيادة والحسنى ، ويرجى لك مع ذلك مايرجى للأبرار ، وتعد في جملة المصطفين الأخيار ، وإذا انتفعت في نفسك فربما ينفعالله بك غير ك بدعاء يستجاب ، وعمل يستطاب ، وشفاعة مقبولة ، ونفاعة مبذوله ، وإن أوردت نفسك موارد التلف ولم تصنها عمَّا نزهها أباؤك وفضلاء السلف ، وصمَّت أذناك عن أمور الأخرة ، وعميت عينك عن العترة الطاهرة ، وهنن حواسك الى جنا أمانيها ، ولم تعرج بين محاسنها ومسأوئها وأنجعفت في ميدان اللهو العتيد حتى جاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد ، فأغرس يابني: كلامي هذا في صدرك ، وأستثمَّره في عسرك ويسرك ، واستصبح به في ديجور أمرك ، وعليك بطلب العلم وحفظه ودراسته ليلاَ ونهاراَ فإنه رأس الخصال الدينة ، فاجعل العلم رأس مالك وأقبل عليه بكلك ، ولا تجعل معه شريكاَ فإن حصوله على خطر مع الأستبداد ، فكيف مع المشاركة ، ولادين لمن لا عمل له ، ولا عمل لمن لا علم له ، ولا إخلاص لمن لا ورع له ، ثمَّ التيقض في المحأورة والمكاتبة والمراسلة ، ثمَّ اكتساب خصال الخير كلها لاتطرح شيئاً منها ، فأنت من منصب شريف ، ومحتد منيف ، وصن نفسك عن مسأوئ الأخلاق ، وارفعها عن أن تنسب الى الدنيا من الطباق ، وكن ذكي الباطن ، نابه الفكرة ، مانع الرؤية ، حاضر الجواب ، سالم الإرتياب ، صحيح الأركان والمباني ، حلو(1/133)
المعاطف والمجاني ، محسن الى القريب والبعيد ، مولع بكل عبد منيب ، وقد صدَّق الله ظنه في ولده ، وقوّى فراسته في فلذة كبده ، الولد سر أبيه ، قد صار أماماً ، وللحق حسأما ، وسيما للدين ، وسراجاً وهاجاً للمسلمين .
... أعاد الله من بركاته عليَّ وعلي السامع من بركات آل محمد الطاهرين ، وحشرنا في زمرة أبيهم خاتم النبيين ، وأدخلنا في شفاعته ، وأحيانا على سنته وأماتنا على ملته ، والحمد لله على التوفيق لمحبة آل محمد واللإقتداء بهم .
... وأما شيخه الفقيه الأمام حاتم بن منصور
الحملاني ــ رضي الله عنه ، وأرضاه ، وأعاد من بركاته ــ ، فهو كما وصفت في أول الكتاب: أماماً من أئمة الشريعة المحمدية ، وسيداً لأهل العبادة ، وقدوة لمن أراد الزهادة ، وغيثاً لمن أمَّه من أهل الفقر والفاقة ، كان زميلاً في درس العلوم للأمام المؤيد بالله ذى العزة يحيى بن حمزة ( ع ) ، وكان شيخهما في العلوم ، وقدوتهما في طاعة الحي القيوم الفقيه الأمام فدوة زمانه وغوث أوانه محمد بن يحيى بن خليفه بهجرةحوث ــ حرسها الله بالصالحين ــ ، وكان شيخ محمد بن خليفة السيد الأمام ، الصوام ، القوام ، المتنزه عن قبض الحلآل والحرام محمد بن وهاس روي: أنه ( ع ): ما نكح ، ولاذبح ، ولا فتح بأبا ، ولا قبض درهماً ، حتى لقي الله تعالى ، وكان هذا حاتم بن منصور ــ رحمه الله تعالى ــ قد براه الخوف ، وأنحلته العبادة حتى كان يرى كالشن من الخوف والبكاء ، ما راي على رأسه عمامة قط ، وكان يلبس الثوب الى نصف ساقه ، ولايسدل الثوب في صلاته .(1/134)
رَوَى لي سيدي إبراهيم بن أحمد الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ قال : صلى حاتم بن منصور زهاء أربعين سنة بالجماعة أماماً ماترك صلاة واحدة بالجماعة نعلمها ، ولامدة الاربعين سجد لسهو الا ست مرات ، وما يدع البكاء في الصلوات الجهرية والمخافته ، وما يترك صلاة التسبيح في اليوم ( في ن: [ مرة ] ) في وقت الضحى ولافي الليل مرة حتى لقي الله تعالى ، روي لي الثقة: أنه قبض روحه وهو يصليها مستلقياً من المرض ، وكان محلقاً وشيخ أهل زمانه في أصول الدين وأصول الفقه والفقه ، وله موضوعات ، ومسائل فقه مروية ، وأنظار ، واجتهاد ، فعراه الخوف ، وأذل لبَّه ، فترك نشر العلم ، واشتغل بالعبادة ، وقد أخذ منه بالنصيب الأوفر ــ انشاء الله تعالى ــ ، وكان لا يدخر شيئاً حتى ليومه بل يؤثر به اخوانه ويواسي بما فتح الله له أهل الفاقة من المسلمين ، وكان يدَّان ......... والآلوف من الدراهم والدنانير في تزويج الفقراء من درسته واخوانه ، ومن شكا عليه العنت ، وما خلف شيئاً من متاع الدنيا الا ثوباً وكوفية ونعلاً ، وكان تحته بساط خلق وفروة عاريه ، وتولى قضاء ديونه ، وتحمَّل مشقة أطفاله ولده الفقيه الفاضل الزاهد محمد بن حاتم بن منصور .(1/135)