طيبرد منفرد ينفرد .. الى آخره ، وهو في خزانة إبراهيم ــ رحمه الله تعالى ــ ، ودعاء أيضا علَّمه أياه ، أوله يدعابه عند الصباح: [ اللهم يامن دلع لسان الصباح بنطق تبلجه ، وسرح قطع الليل المظلم في غياهب تلجلجه ، وأتقن صنع الفلك الدوار في مقادير تبرجه ] ، وهو يأتي ثلاث ورقات ، وهو مروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، بالسند الصحيح ، والأسماء الحسني رويت له بسندها الصحيح من مكة المشرفة فنقلها عني غيباً مراراً كثيرة ، وكان يتلوها بعد كل فريضة كما حكيت عن مشائخي في سندها ، وكان يصلي الصلوات على أول أوقاتها في السفر والحضر جماعة بأهل مقامه المبارك الشريف ، وكان يصوم رجب وشعبان وشهر الله المحرم والأيام البيض ، وتسع الحجة في الحضر والسفر لا يفطرها فيما علمت وتيقنت ، وكان على وجهه الكريم من الأنوار ما لا يستطاع الحاح النظر في وجهه من النور والبهى والسيما الأسنى ما لا ينكره الا حأسداً وجاحد ، كنت أوافقه في السفر والحضر فإذا اتفقنا ذاكرني أوراد الصالحين وحكاياتهم ، وشيئاً من كلامهم وحكمهم فلا أقوم من مقامه الشريف حتى أرى عينيه تفيضان بالدموع ، ثمَّ يدعو لنا ويقول : ادع الا في موافقات يسيره لا يخلوا لنا فيها ما يليق ذكره ، ــ أعاد الله من بركاته ــ .
... وأما مودة إبراهيم الكينعى:(1/116)
فكان يوده مودة لله خالصة ، قال يوماً: نستغفر الله من تقصيرنا في حق هذا الأمام ، وكان يزوره في كل عام الىذمار ، وإن كان في صنعاء ففي الشهر أو في الشهرين زوره في الليل في خلوة خالية ، ويقف عنده شطر الليل ، وكان يذكر له أحوال الناس ، ويسأله لإخوانه وللفقراء ، فيقول له: وقَّع ماتشاء وسلَّمها الى فلان من خدمه سهلت أو عسرت جلت ، أو دقت ، وشايعه ، وتابعه ، وجاهد معه ، وغبر أقدامه في الجهاد في غزاة حراز الباطنية ، وكان فيها والسيد الأمام الناصر بن أحمد بن مطهر بن يحيى ، والفقيه الأمام على بن عبد الله بن أبي الخير ، وفضلأ عده ، كانوا في تلك الغزاة ، وكان ــ رحمه الله تعالى ــ معه في يوم المنَّقب وبيت غفر ، وكان يخرب من البيوت والأطيان بيده المباركة ، وكان معه يوم فتح حصن بيت الغم ، فطلب الفقيه موافقة الأمام قال له الأمام : نحن نأتي اليك أي وقت أحبَّبت أو أحبَّبنا أن نأتيك ، فكان يزوره وهو في خيمة بعض أهل وده ، فكان الأمام ياتيه ليلاً أو نهاراً ويقف معه شطر الليل والنهار يتذاكرون: العلم ، وكلام الصالحين ، والأمور الاخروية ، وإذا ذكر أحد: حال الدنيا قال الأمام : حاشا هذا المقام المبارك من ذكر الدنيا ، قال إبراهيم الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ ما وجدت في علم المعاملة ، وعلوم أهل الحقيقة ، ووظائف أهل الطريقة ، ومكاشفات الحقيقة ، في وقتي هذا أعرف من الأمام الناصر ــ عليه السلام ــ أراني كتبا غريبه في علوم الزهَّاد والعبَّاد وحكايات الأوتاد مالم أره منها :كتاب ( قصائد ربانية ) تدهش الآلباب لفلان المصري ، وكتاب ( كيما السعادة ) للغزالي ، وأجزاء من ( احياء علوم الدين ) ،
اشتياق الكينعي لرؤية إمامه(1/117)
كان إبراهيم الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ يشتاق الى رؤية الأمام ، ووعظه ، وحكمه ، ولهذا يزوره ، وكان يقسم ــ رحمه الله تعالى ــ أن إذا وافق الأمام ليقبل أخمص قدميه ، فيقول الأمام: أنا أكفَّر عن يمينك ، فيقول: لابد لي أن أفعل ويحب الأمام أن لا ينفره أو يضيقه ، وكان يأخذ يد الأمام ــ عليه السلام ــ ويضعها علي صدره ، وأذا أكل معه أخذ لقمة وأشار بها الى الأمام أن ينفث فيها من ريقه ويقرأ عليها شيئاً من القرآن ، وكان يقول ــ رحمه الله تعالى ــ : حالة المسلمين قبل هذه الدولة المباركة كحالة إليهود في الذلة ، لأنهم بذلة وصغار والمسلمون بها ولا تسلم لهم ثيابهم وبهائمهم وزروعهم ، هذا شيء رأيناه في صولة العرب وشرة الرعايا ، ونحن ــ بحمد الله ــ في هذه الدولة أمرا نأمر وننها ومشاركون للأمام في ملكه ، هذا معنى كلامه ــ رحمه الله تعالى ــ ، وكان يحكي لي: ما جرى على هجرة المسلمين من الباطنية وأجلاف العرب ببلاد مدحج وحهران ، وصيح بكيل ومن أنتهب من السادات والعلماء والمتعلمين ، ومما أكرَّمه به من العلم والفهم ما روى الفقيه العالم الفاضل الزاهد حسين بن منصور الصيعي: وهو من علماًء أهل المذهب الشريف سيما في علم الأصولين محلق فيهما ، محقق ، من أفضل أهل وقته علماً وورعاً وعفة وزهدا وتفان ، إن رجلاً شافعي المذهب وفد من حضرموت: تريد قصد الأمام المهدي علي بن محمد ــ عليه السلام ــ لرشاده فوصل الى ولده صلاح ببلاد مدحج ، فقال لأهل حضرته: وهم السيد الأمام الواثق بالله المطهرين محمد ــ رحمه الله تعالى ــ والقاضي العلامة جار الله أحمد بن عيسى المشهور بالتحقيق والتدقيق في علم الكلام ، والفقيه أحمد بن أبي القاسم بن غرار المعروف بالبصيرة والفضل والفهم الوافر ، والفقيه معيض بن عبد الله الصعدي المعروف بكما له سيما في علوم القرآن شيخ الأمام الناصر ــ عليه السلام ــ في علوم القرآن ، فقال لهم(1/118)
الحضرمي: إني رجل شافعي المذهب والشفعوية يزعمون أنهم على الحق ، وأنتم تزعمون أنكم على الحق والقدر مسئلة وقعت في ........... وأنتم علماًء الإسلام وأهل النقض والإبرام فإن شفيتم غليلي ، والا قصدت صعدة الى أبيك المهدي ــ عليه السلام ــ ، فقال لهم ولد الأمام صلاح ــ عليه السلام ــ : جوَّبوا على هذا الرجل ، فقالوا: جوَّب عليه نتبرك بالإبتداء بكلامك ، وقصدهم والله أعلم يحكوا للرجل كلام المعتزلة وكلام يطول فتنحنح ولد الأمام صلاح ــ عليه السلام ــ وكان يومئذ حديث السن ، عمره ثمَّاني عشرة سنة على ماروى لي الفقيه حسين ، وحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وآله بأفضل ما يصلي عليه ، وقال: روي لي الثقات ــ رضي الله عنهم ــ أن أربعة من التابعين من علماًء المعتزلة وهم: واصل بن عطا ، وعمرو بن عبيد ، والحسن البصري ، وعامر الشعبي ، دخلوا على الحجاج بن يوسف ، فقال لهم : ما تقولون في القضا والقدر ؟ فقال واصل بن عطاء : لا أدري إلاّ ما أروي: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ أنه قال: لرجل سئله عن القدر ؟ ، فقال له : أتحسب أن الذي نهاك دهاك إنما دهاك أسفلك وأعلاك والله بريء من ذلك ، وقال عمرو بن عبيد: لا أدري الا ما أروي عن امير المؤمنين: ــ عليه السلام ــ أنه قال لرجل: سئله عن القدر ؟ ، فقال له إذا كانت المعصية حتماً كانت العقوبة عليها ظلماً ، وقال الحسن البصري: لا أدري الا ما أروي: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ كرَّم الله وجهه ــ في الجنة لرجل سئله عن القضاء والقدر ؟ ، فقال ــ عليه السلام ــ : أتحسب أن الذي فسَّح لك الطريق يلزم عليك المضيق ، وقال عامر الشعبي: لا أدري الا ما أروي: عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ أن رجلاً سئله عن القضاء والقدر ؟ ، فقال له : ماستغفرت الله منه فهو منك ، وما حمدت الله عليه فهو منه سبحانه ، فتبلج وجه السائل الحضرمي ،(1/119)
وثلج صدره ورضي بقوله وأكتفي ، وآب على عقبه راشداً مفلحاً منجحاً ، وترك المسير الى صعدة ، وأنارت وجوه من ذكر بحضرته وحمدوا الله تعالى على فهمه ، و غزارة علمه ، وانتفاع القاصد المسترشد بكلامه ، فهذه كرامة له تروى وآية تتلى ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ياعلي لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) . وروى لي الفقيه حسين المذكور أولا، الله أعلم سمعها من الأمام الناصر أو من غيره ، قال: دخل النعمان بن ثابت وهو ــ أبو حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ ، قال: دخلت المدينة على ساكنها السَّلام لزيارة جعفر بن محمد الصادق ــ عليه السلام ــ ، فأتيت أبنه موسى بن جعفر وهو في المكتب يتعلم القرآن مع الصبيان ، فقلت له: أين يضع الغريب حاجته إذا كان عندكم أو أراد ذلك ؟ ، فقال له موسى ــ عليه السلام ــ وهو طفل صغير: يتجنب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمَّار ، وأفنية الدور ، والطرق النافذة ، وجنب المساجد ، ويضع ويرفع بعد ذلك حيث شاء ، قال أبو حنيفة : فلما سمعت منه هذا القول نبل في عيني ، وعظم في قلبي ، فقلت له: جعلت فداك فمن من المعصية ؟ فقال : أقعد حتى أخبرك ، قال: فقعدت ، فقال : المعصية لا تخلوا أما أن تكون من العبد أو من ربه تعالى أو منهما جميعاً ، فإن كانت من الله فحاشاه أن يظلم عبده الضعيف بمالم يفعل ، وإن كانت منهما جميعاً فالقوي لايعذبه لأنه شريكه فيه ، وإن كانت من العبد فإليه توجه الأمر وله وجبت الجنة أو النار ، فقال أبوحنيفة ذرية بعضه من بعض ، والله سميع عليم .(1/120)