وعلوم الملأ الأعلى ، تم كلامه ــ رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه ــ ، وكان في ابتداء أمره يخفي أوراده وأقوله وأفعاله ، فلما عرف المولى، وأنس بجلال الله، واستغني به عما سواه، كان ظاهره وباطنه كشيء واحد، لمقصود واحد، لمعبود واحد، لمالك واحد، لرازق واحد، لمنعم واحد، على مأدبة واحدة، في مملكة واحدة، لمعز واحد، لمذل واحد، لموفق واحد، وهو لكل شيء واحد ، فرآ ما لم ير، وسمع ما لم يسمع ، ولله القائل:
... وإن لربي صفوة من عبيده قلوبهم في روض حكمته تجري ...
... وأبدانهم قداسكنت حركاتها ... لما في صدور القوم من خالص السر
... تراهم صموتا خاشعين لربهم ... وأنفسهم مجموعة الهم والفكر
... صفوافد نواثم استقرت قلوبهم بحيث يرون الغيب بالغيب كالجهر
... فهم حجج المولى على الخلق كلهم لدعوتهم تهمي السحائب بالقطر
... كساهم إله العرش من نسج وده ... وأغناهم طرا عن القصد للغير
... يضيء ظلام الليل حسن وجوههم ... فأنوارهم تربو على الانجم الزهر
... وجدة بخط يده المباركة ما نسخته : حسبي ربي وكفى ، قال شقيق ابراهيم البلخي ــ رحمه الله تعالى ــ : حصن العمل ثلاثة أشياء: الأول: أن يرى العبد أن القوة على العمل من لطف الله وتوفيقه ليكسر به العجب ، الثاني: أن يبتدي عمله بالاخلاص ليكسر به هواء النفس والشيطان ، الثالث: أن يبتغى ثواب العمل من الله ليكسر به الطمع من الناس ، ولا يحكم ذلك الا بشيئين أحدهما: أن يعرف قطعاً أن أهل السماوات والارض لو أرادوا أن يزيدوا في رزقه حبة خردل أو ينقصوا اويقدموا قبل وقته او يؤخروه لم يقدروا على ذلك أبدا ، الثاني: لو اجتمعوا على أن ينزلوا به مكروهاً لم يرده الله لم يقدروا على ذلك او يدفعوا عنه مكروها أراده الله تعالى به لم يقدروا .(1/91)


... وقال بعض أهل الكمال: ينبغي للمؤمن أن يأخذ الادب في أخلاص أعماله وصلواته كالراعي للغنم يصلى عندها لا يطلب من غنمه حمدا ولا ذما ولا منفعة ولا يخشى مضرة .
... ووجدت بخطه قال: الوافد للعالم من أهل البيت ــ عليهم السلام ــ صف الإخلاص قال العالم : الإخلاص مثل نور الشمس أدنى غيم او غبار يكدر من ضوءها قدر ذلك الغبار إن كان ريا محضا أظلمت، وإن كان مشوبا بغرض دنيا اوتعجيل منفعة كان ذلك على قدر ذلك فافهم، فمن كان لله أخوف فهو به أعرف ، ومن ها هنا أقرع القلم فادافع ما انتهى اليَّ من جواهر حكمته في هذا الفصل ، أسأل الله بذاته العظماء وأسمائه الحسنى أن ينفعنا بما علمنا وعرفنا ولا جعله حجة علينا ، في بعض كتب الحكمة :إذا كان يوم القيامة قامت كلمة الحكمة بين يدي الله تعالى وتقول : يارب أنصفني من هذا وقف عليَّ ولم يعمل بي ، اللهم احملنا على عفوك ولا تحملنا على عدلك .
... الفصل السادس في مكارم أخلاقه
...
وتحمله لمشاق اخوانه وأبناء اخوانه ومحابه ، قال تبارك وتعالى: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، والذين هم بأيات ربهم يؤمنون ، والذين هم بربهم لا يشركون ، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيراًت وهم لها سابقون } .(1/92)


وقال (ص): (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (الكرَّم التقوى والخير عادة )، وسئل صلى الله عليه وآله وسلم عن مكارم الأخلاق ؟ فقال : (أن تعطي من حرمك ، وتعفو عن من ظلمك ، وتصل من قطعك ) ، وفي خبر آخر (وتسلم على من يسلم عليك ) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (من أصبح صائما ، وأعطى سائلا ، وعاد مريضا ، وشيع جنازة ، ولم ينو ظلما لأحد من المسلمين ، وسلم على كل من لقي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ) ، وقال إبراهيم الكينعي ــ رحمه الله تعالى ــ : ما لقيت أحدا من المسلمين الا رأيت له الفضل عليَّ ، وسألت الله له خيراًلدنيا والاخرة .(1/93)


... ومكارم أخلاقه لا تنحصر، ولطف شمائله ظاهرة ، لكن نذكر: نموذجاً منها وتنبيهات عليها ــ انشاء الله تعالى ــ ، منها: ما حكيت: عنه أعاد الله من بركاته ، ومنها: أنه قال : ما أرضى أن أحدا يدخل النار من أجلي ، ويجدد البرى في كل موقف يذكر ذلك أني قد أبرأت كل أحد ظلمني في عرضي أومالي وعن كل شيء يسأله ربي عليَّ من قول أو عمل أو اعتقاد ونية وعزم ، واسقاط كل حقوقي عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أجمعين الا الدعاء من اخواني فإني أحبَّه . وهذه تاج مكارم أخلاقه، وعنوان فضله ، ومنها ، أن رجلاً جاء إليه معتذرا من قول قاله في عرض مراجعة: سأله ما معنى الخلوة ؟ ، فجوَّب عنه بقوله رحمه الله عنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن العبد ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم ) ، فقال له ذلك الرجل: قد ندمت وأستغفر الله فيطيب قلبك عليَّ ، فقال له: يافلان شر الأخوان من ألجأك الى الاعتذار . ، ومنها أنه جدَّد العزم والنية وارتحل الى مكة والحجاز، وابتدأ سفره هذا، وابتدأ نيَّته في تحمل مشقة السفر العظيم في سبب دين علق في ذمة بعض خواص اخوانه شغله ما عليه من الدين وعدم ذات يده ، فشمَّر لله تعالى وصلة لرسول الله (ص)، ولأخيه السيد العالم الهادي بن على بن حمزة ، وهو زهاء مائة وخمسون قفلة ، فوصل الى مكة المشرفة ، وجمعها من حيث أراد الله ، وسار بها بنفسه الى الصفراء وينبع ، وسلم دين أخيه واستبرئ لذمته من ورثة عدة وكتب إلى أخيه بأني قد قبلت وقضيت عنك وسلمت ما عليك الى أرباب الدين ، وحصلت لك البراءة التامة ، وعليها حكم الحاكم وشهادة الشهود . جعل الله هذه الصلة من أثقل ما يجد في ميزانه ، وأعاد من بركاته على كافة اخوانه .
... ومن مكارم أخلاقه:(1/94)


أنه أرتحل مسافة خفيه الى عند الأمام الناصر لدين الله محمد بن على بن محمد بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبب حاجة لبعض محابه ، ولم يشعر بمسيره حتى أخبره ، قال للأمام ــ عليه السلام ــ : إن فلانا كما تعرف لاشيء معه وله بنات لأماوى لهن سوا الله فأحبَّ تصرف له بيتا من بيوت الباطنية بصنعاء اليمن ، فقال له الأمام ــ عليه السلام ــ : قد جعلنا له بيتا وأعنأبا وأوطانا ومستغلات ما يسد خلته ويكفي عائلته ، وكتب بخط نفسه بذلك: كتاباً عظيماً بمحضره وأشهد الأمام على نفسه شهودا من العلماء والفضلاء ، وأمر حكامه أن يحكموا بما وهب للمشفوع له ، ووصل ــ رحمه الله تعالى ــ مبشرا لأخيه بذلك ـ ولوكان حاضرا لما فعل لفعله ـ فقال له أخوه في الله: جزاؤك على الله وثوابك مضاعف ــ انشاء الله تعالى ــ ، لكن كيف هذا ؟ قال هو من أطيب الأرزاق ، وكفرهم أجمع عليه علماًء الإسلام وجميع الملل فقدر هذا البيت والمال والمستغلات بخمسين ألف دينار كل خمسة دنانير منها أوقية ، فقبض ما ذكر أخوه المود له فيه قبضا كاملا وزرعه وباعه واشتغل مدة حياته وكذا ورثته ــ انشاء الله تعالى ــ ، كل ذلك ببركته وشفاعته وحسن قصده .
... ومنها: أنه شفع لبعض اخوانه بقريه من الأمام الناصر ــ عليه السلام ــ فأجابه وهو يستغل منها في كل عام خمسة عشر حملاً من الحب و الدراهم ، والغنم مئينا ، وعلى الجملة إنكافة اخوانه سيما الفقراء المحتاجين يتفقدهم في كل عام بما يحتاجون إليه من الكسوة والنفقة والأعياد وغير ذلك حتى بالبخور المائعة وغيرها . قال ــ رحمه الله تعالى ــ لأنها تقل القمل في الشميل ، والتفضيل يورث التطويل ولمع البارق المنير يدلك على النوا المطير .(1/95)

19 / 50
ع
En
A+
A-