ظلفه الى ركبته خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، فما قمنا من ذلك المقام الا وقد أنقطعت أوصاله من تململ أعطائه ،وما سرنا الأ ورجلان منا يمسكان بيده ، وقال يوما: في معنا قوله تعالى: { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } ، يابن آ دم: سافرت المشارق والمغرب لتعرفنا، فلو سافرت في يفسك لوجدتنا في أول قدم درت البلاد تطلبنا، ونحن اليك أقرب من حبل الوريد . ونحن معكم أينما كنتم ، وأنشد بعض أهل الكمال:
ذومن عجب أني أحن اليهم ... وأسأل عنهم من أرا وهم معي ...
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاق قلبي وهم بين أضلعي
... وأفكاره ــ رحمه الله ــ عجيبة، ونتائجه غريبة، وعلومه باهرة، وحكمه ظاهرة قال (ص) : ( من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) ، فكيف من أخلص لله عمره وهو خمسون او ستون سنة ، ومن هاهنا أقف على الاختصار وأفر ش الاكثار لأن فوائد أفكاره المباركة تأتي مجلداً كبيراً والله أعلم .(1/86)


... ومن أوراده المباركة: الصيام حبب اليه الصيام والقيام حتى لقيَّ الله تعالى وكان إذا سئل بالله ليفطر تكرمة لأخيه في الله أفطر، وتغيرت حالته وانكسر قلبه، وجدد الطهارة لكل صلاة، وقال: كل هذا من بطني ، وسمعته يوما يقول: لو وجدت رخصة في أيام التشريق لصمت ، قال له بعض اخوانه : أما أنا فان الصوم يشق بي ، سبحان الله أليس الذي أنت تأكله بالنهار تأكله في الليل وتنال درجة الصَّائم الذي ليس له جزاء الا الجنة كما في الخبر ، كنت معه في سفره الى خبان مذحج لزيارة اخوانه فسرنا الى بلد يقال لها دمت وبالقرب منه عين عينا حارة يقال لها: بريد وهي آية من أيات الله تعالى جبلا شاهقا على شكل القدر، فطلعنا الى أعلاها ، فأشرفنا عليها وهي تفور وتغلى وزوَّها يأخذ الوجه واستدارة الماء في رأس الجبل قدر المرحام قيل: أن الطير إذا مر عليها سقط فيها ، وينبع من عروق من هذا الجبل عيون كثيرة تفور وتغلي وإذا وضع الانسان يده او رجله رفعها سريع من شدة حر الماء والزمنى والمرضى يقصدونها ويتحممون فيها فوقفنا معه ثلاثة أيام نشاهد هذه الآية العظيمة ونغتسل فيها مراراً ، فطلعنا الى أسفل خبان، فأصابنا العطش، وربما خف علينا العشاء فقلنا تحت الشجرة ففتح لنا بشيء من الخبز والماء البارد، فعولنا عليه كثيرا لأجل الحمى الذي اعترانا فما ساعدنا بل قال: عرضت على نفسي الوان الطبايخ هذه الساعة حتى الزبرناخ، والوان الفواكة، والوان الطعام والشراب، فما رغبت في شيء مرة واحده فالحمد لله ، وقصده والله أعلم خفف علينا اشتغالنا بحاله .(1/87)


روى لي يوما: ان طفلة خرجت من بيت قوم صالحين، فرأت رجلاً يأكل بالنهار في غير شهر رمضان فقالت لأهلها: إني رأيت رجلا يأكل بالنهار لعله: يهودي فقالوا لها مهلاً نستغفر الله العظيم ، انكرت الطفلة ذلك لأن أهلها لا يفطرون في النهار بل يصومون الدهر ، ولم يضفها الى اسم رجل ولا الىكتاب لأنه رحمه الله تعالى كان ما يروي شيئاً إلاّ يسنده إلى رجل أو كتاب فظنت
ــ والله أعلم ــ أن الطفلة من أهل بيتهم كما مره في فضلهم وزهدهم . سمعته ــ رحمه الله تعالى ــ يقول : قال (ص) : ( من صام لله يوما محتسبا بعده الله من النار خمسمائة عام ) ، وقال لي يوما : يا يحي كم من مرة اسابق الفجر على عشاي ، وقد ظهر لي أنه طوى مرة ثلاثة أيام ومرة خمسة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا غيره لمسابقته لطلوع الفجر كما قدمت ، وقال لي يوما : كان سهل القشري يطوي نيفا وعشرين يوما لاياكل فيها قال: واقسم عبد الواحد ابن زيد ــ رحمه الله تعالى ــ بالله أنما طافا الله عبداً عباداً الا بالجوع، ولا والا هم الا بالجوع، ولا طويت لهم الأرض الا بالجوع، ولا مشوا في الهوا الا بالجوع ، قال: وذكر ابو طالب المكَّي في ( قوت القلوب ) مثل البطن مثل المزهر ـ وهو العود المجوف ذو الاوتار، وإنما حسن صوته لخفتة ورقتة وخلاء جوفه ، فكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة، وادوم للقيام، وأقل للمنام ، وقال: روي: أن عيسى ــ عليه السلام ــ قعد يناجي ربه ستين صباحا ماطعم فيها شيئا فخطر بباله الخبز، فانقطع عن المناجاة ،وموسى ــ عليه السلام ــ لما ترك الاكل أربعين يوما قربه الله نجيا ، وجد في مسوداته بعد موته قال: فصل من كلام أهل الأشارة . قال: سئل يحيى بن معاذ عن الصوم فقال: الصَّوم ، فقال: صوم العامة عن الطعام والشرب، وصوم الخاصة صوم العبودية، فيفطرون بذكره من حلاوة الخدمة ،ويجلسون على مائدة النعمة ،ويأكلون من ثمار الحرفة ،ويشربون من عين المحبة(1/88)


،ويقومون بشكره، وينامون بأنسه ، ويستضيئوا بضوء التوفيق ، ويتسحرون بالشوق ، ويصَّلون ركعتين ركعة من خوف القطيعة، وركعة رجاء الوصلة ، ثم يسلمون على أيمانهم بالانقطاع عن الدنيا وعن شمائلهم بالانقطاع الى الآخرة ، ثم يقولون: لبيك من نفسي وروحي ، لبيك من قلبي وعقلي ما دام ا لروح في جسدي ، فإذا كان ذلك فهو من أهل هذه الآية قوله تعالى: { والذي هو يطعمني ويسقيني وإذا مرضت فهو يشفيني } من مرض القطيعة برجاء الوصلة أي يطعمني من حلاوة الخدمة ، ويسقيني من عين المحبة ، ويشفين من مرض القطيعة برجاء الوصلة ، وأراني في كتاب قد علمه ، قال: أبو سليمان الداراني : مثل الجوع مثل الرعد، والقناعة مثل السحاب، والحكمة بالمطر ، الى غير ذلك من فوائد علمة ، وأوراده الصالحة على الجملة من ما قربة، أوطاعة، أو عمل صالح مأثور عن الأنبياء والأولياء والصالحين إلا عمل به واتخذه في أوراده وشيء من عبادات الملا ئكة ــ عليهم السلام ــ وتسبيحاتهم ، وأذكارهم، دخل عليه رجل يوما من اخوانه فعظَّمه وقال: عليَّ لهذا منة أهدى الي فضل صلاة أربع ركعات فبل العصر فأنا أسميها صلاة فلان فأدعو له فيها ، وأمَّا إخلاصه في طاعة الله وهي ظاهرة ، وزهده في الدنيا والاخرة أورثه الاخلاص الخاص ، كما قال(1/89)


ــ رحمه الله تعالى ــ : لو لم يخلق الله جنة ولا نار أليس يحق له أن يعبد ، بلى وعزَّتة وجلاله . أملى عليَّ يوما: من أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها من الحرص والشغل والغفلة وغير ذلك، فصار رماداً: ومن أقبل على الاخرة أحرقته نار الخوف فصار سبيكة ينتفع بها ، ومن أقبل على الله أحرقته نار التوحيد ونار المحبة فصار جوهرة نفيسة لا قيمة لها ، وقال: أظنه رواه: خبراً: ( أن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وقوما عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وقوما عبدوه تعظيما لجلاله وتقديسا لذاته فتلك عبادة الابرار ) ، وقال له بعض اخوانه: إن صلاة الجماعة فيها الفضل كما تحقق عظيم فجوَّب عليه جواباً مختصراً : وأيَّا عندك أفضل الوقوف مع العبيد اومع الملك فندم ذلك المتكلم ، وقال لي يوماً: أكتب هذه الكلمات في مختصرك ( تذكرة أولي الالباب ) : ما أتاك من الدنيا فلا تفرح به: وما فاتك فلا تحزن عليه ، واجعل همك لما بعد الموت ، هذه الكلمات لعلي ــ عليه السلام ــ ، فقال الفقيه ــ رحمه الله تعالى ــ هذه التي بعدها تريد، وأملي علي يوما من خط يده المباركة ، قال: المخلص العارف أن يكون غذاؤه ذكر الله ورأس ماله اليقين بالله ، ومطيته الهيبة من الله، ولباسه تقوى الله، وتحريكه التفويض لامر، الله وعزمه التسليم الى الله، ومهنته التعظيم لله، فهو محبوس في سجن الرهبة مقيد بالحياء ، متنعم بالمناجاة ، قد أمرضه الشوق ، وأشغفه الحب ، له ورع لا يشوبه طمع ، ويقين لا يشوبه طلب ، وأنتباه لا تشوبه غفلة ، وذكر لا يشوبه نسيان ،وعزم لايشوبه عجز ، وعلم لا يشوبه جهل ، ودعاء لا تشوبه فترة ، فعليك بهذه الطريقة فالزمها ، وأقبل عليها بقولك، وفعلك، وسرك، وجهرك، وسمعك، وبصرك، فإن الخير والبركة بحذافيرها لمن سلك هذه الطريقة ، فمن صبر عليها أربعين يوما إتقد في قلبه مصباح النور، وانفتح له عينان في قلبه يبصر بهما الى أحوال الدنيا وأحوال الاخرة(1/90)

18 / 50
ع
En
A+
A-