... ــ رحمه الله تعالى ــ قال لي يوما : كيف أنت تقرأ فاتحة الكتاب قلت:اسمع مني فقرأتها عليه .. الخ ، وقصدي أنه قصد كوني لا ألحن في قرأتها ، فتبسم وملا عليَّ وقال : إن فاتحة الكتاب هي أم القرآن ، والسبع المثاني ، والشافية ، وسورة الشفاء ، وأهل الصدق والوفاء يقرأونها باللسان ويتدبرونها بالقلب ، قلت : أفدني جزاك الله عني خيرا ، فشخص ببصره نحوالسماء مرارا لتحرير النيات وإخلاصها لله ــ تبارك وتعالى ــ ، وقال : إذا ابتدئت فاتحة الكتاب وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم أخطرت بقلبك أنك تبتدئ به في صلاتك ، وقولك ، وعملك ، ونيتك ، وموتك ، وحياتك ، ودينك ، ودنياك ، وكل أمرك ، فإذا قلت : الحمد لله أخصرت بقلبك حمداً، كثيراً، طيباً، مباركاً فيه ، رب العالمين ،كان ولاشيء، ثم خلق العالم لحكمته ورحمته وقدرته وإظهار حججه لالحاجته ووحشته من غير حاجة اليه ، ثم يفنيه ويبقى وحده الرحمن التي وسعت رحمته الدنيا والاخرة رحمن الدنيا، ورحيم الأخرة <مالك يوم الدين > مالك: التصرف ، { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } يوم الدين: يوم الجزاء < إياك نعبد >: يا من هذه صفته أي يارب، يارحمن، يا رحيم، يامالك يوم الدين، < وإياك نستعين > : نطلب منك المعونة على عبادتك وتأدية فرائضك على ما ينبغي لك، وعلى صغير أمرنا وكبيره، وديننا ودنيانا ،وكل مثقال ذرة من أمرنا كله لانطلب معينا سواك ، < إهدنا >:دلنا ووفقنا وأرشدنا ، < الصراط المستقيم >: الدين القويم الذي تحبه وترضاه وترضا به عمَّن أتاك به ، < صراط الذين أنعمت عليهم >: من ملائكتك وأنبيائك وأوليائك وخاصة خدامك، < غير المغضوب عليهم >: من الكافرين، الفاسقين، وأهل البدع والاهواء، والضلالات المضلة، < ولا الضالين > : من اليهود والنصارى والمجوس ، فلمَّا فرغ حار فكري ، فقال : فكيف تسجد وتركع ؟ فقلت : تكليفي دون هذا ، وقد ستره ــ تبارك وتعالى ــ علي وجهل الناس بعلم(1/76)
الغيب من نعمة الله ، فلو أطلق عنان فكره لضاقت عليَّ حُبِك النطاق ، ولكن رآي همتي كليلة وعزيمتي ذليلة . قلت له يوما : هل تذكر شيأ في صلاتك ؟ فقال : وهل شيء أحب اليَّ من الصلاة فأذكره فيها ، يا يحيى: إذا دخلت في الصلاة فريضة او نافلة نسيت الدنيا وأهلها ومهما كبَّرت في الصلاة فكأنها تكبيرة على ميت ، وأين نفسي والدنيا وما فيها . وهذه الكرامة الكبرى والشرف ، والله الا سنى التى عجزت عنه الصحابة والتابعون والاولياء والصالحون ، وهي عنوان كراماته وتاج فضائله . اطلت معه يوما الجلوس ، فقال : نقوم الى مهرتنا ، يعني الصلاة ، قد صارت مهرة والا فلسنا نؤديها كما ينبغي ، وما معناه هذا ، قلت إن صلاتك حسنة ، قال : أين هي من صلاة حاتم الاصم ؟ هل وقفت عليها ؟ قلت نعم . قال : فما قال رسول الله 0 (ص) لأنس ؟ صل صلاة مودع ترا أنك لا تصلي بعدها، واضرب ببصرك الى موضع سجودك ، واعلم بأنك بين يدي من يراك ولا تراه ، قلت : أفدني جزاك الله خيراً ، فقال ينبغي للمصلي أن يطهَّر قلبه كما يطهَّر ثوبه ، ويحظر باطنه كما حظر ظاهره ، وينعث قلبه ويبحثه ، ويشعره ويزجره بأنه بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولاما تجنه الصدور ، ويخص صلاته بقرأت ، قل: أعوذ برب الناس ، فيتوجه بتعبد وتدبر ويكبر بإجلال وتعظيم ، ويقرأ بتفهم وتضرع ، ويركع بلين وتعظيم ، ويسجد بخضوع واعتراف بالعبودية ، خجل من مولاه الذي هو مطلع على قلبه ، أفاً سمعت يافلان ما قال العالم الوافد ؟ قلت أفدني وأجرك على الله تعالى قال : قال : الصلوات مواصلة، ومضافاه ومناجاة، ومداناة، المصلي يقرع باب الله، وهو قائم على بساط الله ، الصلاة صلة بلا مسافه، وطهارة كل خطيئة ، وليس للمرء الاماعقل من صلاته ، ولاترفع إذا غفل عن مناجاته قال الله تعالى: { لا تقرَّبوا الصَّلاة وأنتم سكاري } قيل: سكارى من حب الدنيا وشغولها ولهذا ترك أولياء الله الدنيا(1/77)
لتفريغ قلوبهم لمناجاة الله في صلاتهم . قال ثابت البناني ـ رحه الله تعالى ـ :كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة ، وسمي المحراب محرابا لان المصلي يحارب نفسه وشيطانه ودنياه ، وقال بعضهم : يحشر الناس على قدر هيئاتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء والسكينة ، وقال بعضهم ـ ذكره في قوت القلوب ـ: المصلي كالمصطلي بالنار، فإذا صلي العود بالنار صلح بالمصلي يصلي بنار السطوة الالهية والعظمة الربانية ، قيل إذا التفت المصلي ، يقول الله تبارك وتعالى : أقبل ياعبدي فأنا خيرلك ممن تلتفت اليه ، تعالى الله علوا كبيرا ، ما أرحمه بعبد السوء وألطفه ، أوما وقفت يا فلان: على مال الحسن البصري ــ رحمه الله تعالى ــ ، ماذا يعز عليك من أمر دينك إذا هانت عليك صلاتك ، أوحى الله تعالى: الى نبي من أنبياه ــ عليهم السلام ــ : إذادخلت في الصلاة فهب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع ، وانظر الى قوله (ص) : الصلاة كالميزان والمكيال ، وقد سمعتم ما قال الله تعالى: في المطففين وقوله: { وزنوا بالقسطاس المستقيم } وروي: أن الحسن البصري رأه صديق له في المنام قال ما فعل الله معك ؟ قال الحسن: أقامني بين يديه وقال لي: ياحسن أتذكر يوم كنت تصلي في المسجد إذ رمقتك الناس بأبصارهم قردت حسنا في صلاتك ، فلو لا أن أوَّل صلاتك لي كان خالصا لطردتك اليوم من بابي ولقطعتك مرة واحدة فلما فرغ من كلامه سقط مغشيا عليه وأسفت إذلم يستتم ما في نفسه فلم يزل مغشيا عليه طويلاً . قال يوماً: انظر الى هذين البيتين ما أحسنهما فأعطاني قرطاسا وقدكان ــ رحمه الله ــ إذا أعجبه شيء كتبه أو علمه فإذا دخل عليه أحد من اخوانه أهدا اليه وحرَّر النية عند الاعطا بنفسي من شفيق وحبيب فيه:
... ... ... أقرع الباب ونادي ... يالطيفاً بالعباد
... ... ... أنا عبد وابن عبد ... والى الحفرة عاد(1/78)
... ... ... ليس لي زاد ولكن ... حسن ظني فيك زادي
... كنت معه في سفر مكة فرصدت أوراده الصَّالحة في اليوم مائة وعشرين ركعة: فيها ما يقرأ فيه بالسبع المنجيات: والبقرة، وآل عمران، وسورة الأنعام، وصلاة التسبيح وقت الضحى مرة، وبعد الظهر مرة، وفي الليل مرة، وبين العشائين خمسين ركعة ،واما صلاة الليل فإنه يقوم الليل كله وأنا أرقد الليل كله ، وكان يقول: صلاة العشائين ناشئة الليل، وهي صلاة الاوابين، وهي صلاة الذين تتجافا جنوبهم عن المضاجع ، ويروي فيها أخبارا جمة ، وعلى الجملة أن كل صلاته وأذكاره مأثورة وكلما روي: عن النبي (ص) من صلاة، وذكر، وتسبيح، ودعاء، حصل معة النهمة العظيمة حتى يفعله ويجعله له وردا ، وكان يقرأ آية الكرسي بعد الفجر مائة مرة، وسورة الأخلاص مائة مرة ، وروى لي الثقة، أنها ألف وقبل المغرب آية الكرسي مائتي مرة ، ويحاسب نفسه قبل المغرب، ويبكي بكاء عظيما مستمرا في سفره وحضره ، فإن لم يبك أصبح من الغد مريضا متألما غير نشط على أوراده ، وكنا نفهم ورد البكاء فنقوم عنه ، ولابَّد من هذا الورد في السفر والحضر وإذا فاجأه البكاء ونحن معه إبتل رداءه وموضع سجوده ، وكانت معه حجر صغيرة إذا غلبه النوم اتخذها تحت خده ظناً مني والله أعلم.(1/79)
... قال له بعض اخوانه : ياسيدي أن في قلبي قسوة ، وإذا دخلت في الصلاة كأني في السوق لاأعقل ما أصلي ، فقال ــ رحمه الله تعالى ــ : يافلان تعوذ بالله من الشقاوة ، اليس الله يقول: { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } ولم يقل: غافلون ، وقال (ص) : ( ليس لك من صلاتك الاماعقلت ، وإن أحدكم ليكتب له من صلاته: ربعها، سدسها، عشرها، يكتب له ما عقل، لاما عنه غفل ) ، لكن خالطك دآن عظيمان ، أحدهما اشتغالك بالدنيا وفضلاتها وفضولها فتأتي الى الصلاة بعد هذا الشغل وتجعل صلاتك كقدح الراكب ، كما روي عن بعض الصالحين قال لاخوانه : أراكم تجعلون عمل الدنيا مقدما موفرا ،وعمل الاخرة منقوصا مؤخرا ،وقد قيل من سهي في وضوئه سهى في صلاته ، وإذا لم تهب الملك الذي تقدم عليه، وتطلب رفده، وتناجيه بقلب حاضر مقتك ، المصلي يقرع باب الله وهو على بساط الله ،والله مطلع على حركاته وسكناته وضمير قلبه ولمحات طرفه ، عجب لغافل غير مغفول عنه ، الداء الثاني ، تأتي الى الصلوات وبطنك شابع ولست بجائع ، وقد قال (ص):(1/80)