صلاة مودع ترى أنك لاتصلى بعدها أبدا ) ، وهو يطرق ببصره نحو السماء بتحرير النيات المقربة الى الله تعالى ، مع ما خالطه من الهيبة لعظمة الله تعالى والخوف الشديد، كأنَّ قدميه على الصراط يريد الجواز، وكأنَّ النار قدامه يريد الوثوب عليها فيكبر تكبيرة جهرية يظن أن قلبه قد انصدع ،وصدره انشق من سمع تكبيرته المزعج قلبه وطاش لبه ، وقال: ــ سبحان الله ــ أين يستقيم هذا ر وحه مع هذا الخوف العظيم الباهت لمن رأه وسمعه ، فيقرأ : فاتحة الكتاب بتدبر وتفهم وترتيل وسورة معها ويركع بتعظيم وخضوع ويرتفع(1/71)


( ن : [ يقوم ] ) بسكينة، ويهوي بخشوع، ويسجد سجود من كأنه بين يدي المعبود ، ويسبح بترتيل ، يقف عند كل لفظة ، ويضع كفيه حذاء خديه ، كاشفاً لكفيه ، فإذا أتم صلاته وقعد للتشهد الاخير وأراد أن ينطق بالشهادة انضربت أعظاؤه، وتململت جنوبه، وكان يستقل من الأرض كأنه غصن شجرة في يد جاذب قوي يهزه، فينطق بالشهادتين بصوت خاشع يكاد ينفلق الصخر عند سماعه، فيسلم على السكينة والهيبة العظيمة فإذا نظرت الى وجهه عند فراغه فكأن وجهه طلي بالزعفران، ثم يمد كفيه ويبتهل بالاسماء الحسنى، ويدعو، ويتضرع الى الله، ثم يسبح التسبيح والتحميد والتكبير المأثور، ويقرأ آية الكرسي، وشهد الله الى آخر، الآية هكذا في ابتدا أمرة ثم بعد انتهائه إذا فرغ من صلاة الفريضة يبست أعضائه، وتقلصت شفتاه، ويخر مغشيا عليه ساعة وتارة ساعتين وتارة بين الصلاتين، فإذا حضره بعض اخوانه ربما نعشه وكالمه لكي يعقل عما كان فيه، فربما ينتعش، فيقوم، ثم يصلي السنة وبعدها صلاة كثيرة مأثورة الى زهاء خمسين ركعة ، فتارة يصل بين الصلاتين بالصلوات، وتارة يفتر قليلا قبل صلاة العصر ،وأكثر حالاته إحياء ما بين الصلاتين بالصلوات الطوال، ثم يصلي قبل أذان العصر أربع ركعات (1) في كل ركعة بالفاتحة وآية الكرسي وسورة الاخلاص ثلاث مرات، وهو يرويها: عن النبي (ص) ، وكان يحث عليها ،ويقول: ادخلوا في دعوة نبيكم (ص) حيث يقول : ( رحم الله من صلى قبل العصر أربع ركعات ثم يصلي العصر ) كما ( ن : [ على ما وصفته ] ) وصفت وفوق ما وصفت ووصفي دون ماحكيت ، وفي قلبه مما لا يحيط به الا الله ، وما حكيت الا قطرة من مطرة ولايعلم ذلك الا الله والراسخون في العلم { قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون } الآية
__________
(1) ـ مأثورات يقري في الأولى بالزلزلة مع الفاتحة وفي الثانية بالعاديات وفي الثالثة بالقارعة وفي الرابعة بالهاكم ثم يؤذن كما ...... ثم يصلي أربع ركعات .(1/72)


الكريمة ، ثم يبسط في الدعاء والثناء على الله تعالى ساعة ، وقد كان اخوانه يدخلون عليه بعد هذه الصلاة ، وكان يحب ذلك فيأخذ مسبحته بيده ويقعد بين أيدي اخوانه ويفاكهم ويساءلهم عن احوالهم ، ولسانه رطب عن ذكر الله وطرفه يطرق الى السماء للمراقبة في الخطرات واللحظات، ثم يزلجهم الى باب المكان الذي هو فيه مسجدا وغيره ويصافحهم ، ويقول : استغفر الله لي ولكم ولمن ذكرنا ، وقد أبرأت ذمتي يافلان وأنت يافلان يدعو كلا بإسمه من غير كني ، ويحب من يناجيه: بإسمه يا ابراهيم هكذا في كل موقف في الأغلب ، ثم يوصيهم: بالدعاء في الحياة وبعد الممات ويقول: يافلان قد جعلت لي شيأ من حسناتك قد وصلتني بشيء من صدقاتك فإني فقير ما أملك شياء وقد فزتم بالصَّدقات أيها المياسير علينا وعلى غيرنا ، ثم يستقبل الوضوء فيتوضأ قبل غروب الشمس بساعتين أوساعة، فيستغفر ماشاء الله ويوحد الله كثيراً، ويقرأ سورة الاخلاص مائتي مرة وآية الكرسي مائة مرة، فإذا غربت الشمس قال: غربت الشمس وارتفعت الاعمال وعظمت ذنوبي وعفو الله أعظم من ذلك ، ويستغفر الله له ولاخوانه ولكافة المسلمين خمسا وعشرين مرة يرويها: مأثورة عن الرسول (ص)، ثم يؤذن بأذان من سمعه وله قلب كاد يذهب عقله ، ثم يصلي المغرب كما مر ويحيي ما بين العشاءين بالصلوات المأثورة ، وهي موجودة في كتبه بخطه ، وكان يؤاخر صلاة العشاء حتى يذهب بعض الثلث الأول من الليل ، ولايتكلم فيما بين الصلاتين الا بمهم يفوت عليه فضله ، ثم يصلي العشاء الاخرة ويطول في قرأتها ويدعو بعدها طويلا ويفطر على حبات قليلة أو شئ يسير ، ثم يتوضأ ويستقبل الليل صلاة وذكرا ودعاء وتفكرا ومحاسبة لنفسه وتلاوة للكتاب العزيز بصوت حسن خاشع فوق المخافته ودون الجهر الكثير ، إذا تلاه غيباً رتله ووقف عند عجائبه، فإذاكان آخر الليل أوتر، وتعشا عشاه، وتوضاء، وصلى صلاة الإنتباه، ركعتين، ثم ركعتين، ثم أربعا، ثم ركعتين،(1/73)


كلها مأثورة: عن النبي (ص)، ولايزال في التضرع والبكاء حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع صلى ركعتين خفيفتين بالفلق والناس، ثم يؤذن كما وصفت ، ثم يصلي الفجر، ويستقبل النهار بذكر الله وعبادته . هذا في سائر الأيام والشهور .
وأمَّا شهر الله المحرَّم ورجب وشعبان وشهر رمضان الكريم فيلزم الخلوة في هذه الاربعة الحرم ويوظف فيها وظايف
منها لايتكلم فيها أبدا فيما عرفت وعلمت ، فإن كتب اليه في جاجة مهمة دينية جوَّب في ظهر ورقة اوفي عصى او في لوح لفظات يسيرة جوابا . ومنها لايدخل اليه من بني آدم احد والذي يأتيه بالوضوء والطعام يتركه على باب منزل خلوته المباركة أو يهيء في مكان للتجمير والتدفية، فينزل له في أي وقت أحب . ومنها أنه لايفرط في ساعات الليل والنهار بل اللحظة فيما أحب ، ويقطع علائق الكتب لاتقف عنده في هذه الخلوات، فيقرأ في كل شهر ستين ختمة (1) النهار ختمتين، وفي الليل ختمة قياما وتلاوة، ويضاعف الصلوات والاذكار التي في سائر السنة، فإذا خرج من هذه العكفة المباركة شاهدت نورا يلمع على وجهه ولو كشط لحمه لما ملأ الكفين والله أعلم ، ويكاد يدرك بياض العظم من رقة جلده ، وكنا نسمع ونرا في كتب العبادات عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ــ عليه السلام ــ أن أوراده الصالحة في اليوم والليلة ألف ركعة غير الاذكار وإملاء الحكمة، وكذا عن: زين العابدين على بن الحسين كان له خمس مائة نخلة يصلي عند كل نخلة ركعتين كل يوم ألف ركعة غبر التلاوة والاذكار ونشر العلوم . وكذا عن: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب صلى الفجر بوضوء العشاء ستين سنة ، لإذا كان آخر الليل قال : الهي لم أعبدك حق عبادتك، لكني لم أشرك بك شيئاً ولم أتخذمن دونك وليا . وكذا عن: أبي حنيفة ــ رحمه الله تعالى ــ صلى الفجر بوضوء العشاء
__________
(1) ـ القرآن الكريم في كل يوم ختمتين وفي شهر رمضان عمت بركته تسعين ختمة .(1/74)


أربعين سنة ، فإذا كان آخر الليل تمثل بهذا البيت:
... ... كفى حزناً أن لا حياة هنيئة ... ولا عمل يرضى به الله صالح
مع كتب العلوم التى قال (ص) : سيأتي رجل من أمتي يقال له النعمان يحوز ثلاثة أرباع العلم ويشارك الناس في الربع الاخر، وكذا عن: أصحاب رسول الله (ص)، وعن التابعي: كالحسن البصري، ومالك ابن دينار، وسفيان الثوري، وبشر الحافي، وتابعيهم كالجنيد، والبسطامي، وغيره وغيرهم ، وروايتهم في حلية الابرار في خزانة الكينعي، فإن قال قائل : أنى يتهيءهذا العمل الكثير في هذا الوقت اليسير والساعات اليسيرة لهذا الرجل وهاؤلاء السادة ، قلت : إن ذلك يسير على من يسره الله عليه لقوله تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدا وأتاهم تقواهم } ولقوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء } ـ والخير عادة ، قاله (ص) وروي أن رجلاً صالحاً من أهل صنعاء في زمان الهادي ـ عليه السلام ـ رءا النبي الخضر ــ عليه السلام ــ في جامع صنعاء في غربي مؤخر المقدم ، فقال له: أنت النبي الخضر ؟ فقال له : نعم ، فقال : أدع الله لي فقال: يسر الله عليك طاعته ، فقال له : زدني فقال : ما أجد زيادة .
رَوَى لي بعض اخوان سيدي ابراهيم الكينعي ــ رضي الله عنهما ــ ، أنه شاهد ابراهيم صلى الشعبانية مائة ركعة بين العشائين ، وكانت الصلاة والتلاوة عليه سهلة يسيرة ، وكان ذلك دأبه يصليها بين العشائين في كل ليلة من الثلاثة الاشهر: شهر رجب، وشعبان، ورمضان ، حكى لي هذا اخوه حسن بن موسى قلت له يوما : إني يتهيأ لك هذا الختم وقد قال (ص): من قرأه في دون ثلاثة أيام لم يفقه ؟ فجوَّب عليَّ بجوابين ، أحدهما أن الله سهل عليَّ ذلك وأجد خفة في لساني في الصلاة والتلاوة ولا أجدها في سائر الكلام ، والثاني لو أتدبر كتاب ربي لما استطعت أمر بآية وعيد .
نكته في كيفية صلاته(1/75)

15 / 50
ع
En
A+
A-