وكان يزور من مرض من اخوانه ومن غاب تفقد أحوال أهله بنفسه ،وما يتهيأ له، سمع منه بعض المسلمين كلمة في نصيحة حسنة فانزعج ووصل اليه في الليل واعتذر منه ، وقبّل رجليه ورأسه وقال له :أنت أعرف مني ،والذي صدر مني على سبيل النصيحة ، وكان إذا خالط الاخوان فقلبه مع الله وجسده بينهم ، وإن سكت فلسانه يتقلب بذكر الله تارة يقول: يا الله ..يا الله ، وتارة يقول : الله الله ، وإن تكلم بكلمة شخص بعد ها ببصره الى السماء للمراقبة ، وإذا أراد لقاء من يأتيه من اخوانه ومواجهتهم ، شخص بعدها ببصره الى السماء وحرر النية في فعله وقوله وتركه ، فإذا لم يحضر نية قعد قعدة مبلس وحزن كثيراً ، كانت نيته في كل صباح محددة أن كل قول وعمل وترك ومخالطة وعزلة وفكر وذكر وإيناس مسلم وتذكير غافل وإيثار وابتدا سلام لكل وجه حسن يقرب الى الله للوجه الذي يريده على الوجه الذي يريده وعلى وفق إرادته ومشيئته وأمره ونهيه ، وكان يحث اخوانه على هذه النية ، ومن كان له مال أمره بالزيادة على هذه أن كلما خرج من يده لايرجع اليه ولاعوضه من صغير أوكبير ، ومثقال ذرة من أوجب حق يعلمه عليه ، إن كان والا فقربه وصدقة ، وعلى كل وجه حسن يريده ، وكان يحب الخلوة ، وكان إذا دخل قرية طلب له مكانا خاليا ويؤتى اليه بالنفقة ،وكان يحب مكان الخلوة أن يكون مظلما إلاعند أوقات الصلاة فيحب معرفة الوقت ،وكان يحب الوقوف في المساجد إذا كان معه من يدافع عنه الناس لأنَّه لا يكلم في المسجد ولايتكلم فيه ، وإذا وصله غريب عن خصلته هذه الشريفة أخذ بيده وخرجا عن المسجد وكالمه وفاكهه وقضى حاجته ، وكانت أخلاقه كأخلاق الأنبياء ــ عليهم السلام ـــ أن ذكر غافلا فبسكينة ووقار ولطف وتحنن ونصيحه ، وإن كان ممن يحب من اخوانه قوي عليه مرهم دائه والهمة الحمئة التامة ليزول الداء وكان الإتعاظ والواعظ نافعا، له من أقواه لأنه لاتراه إلاخايفا، أو باكيا،(1/66)


أومغشيا، أومصليا، أوتاليا، أومفكرا، أو مكبا، على كتب الحكمة ، فإن فاجأه أحد اعطاه الكتاب وقال: انظر ما قال: فلان ، وكان إذا راء كلمة حكمة تدل على هدى، او ترد عن ردا أعلمها فإذا دخل عليه من اخوانه من يدخل قال : إفتش على ما قد اعلمت لك حتى يقضي ورده الذي هو فيه، ثم يفاتح اخاه ويراجعه على تلك الحكم ، دخلت يوما وهو يبكي بكاءً من مزعجاً فقال : إقرأ عليّ في هذه الصافحة ، ومن مكارم أخلاقه لم يقل: اقرأ عليك هذه لأن عنده أني متعظ وعكس المسئلة اجمل بحالي، فقرأت ما عينفي كتاب: قوة القلوب ، قال الحسن البصري ــ رحمه الله تعالى ــ :يا ابن آدم إنما أنت مراحل ، كلما مضي يوم وليلة قطعت مرحلة فإذا فرغت المراحل بلغت المنزل إمَّا الى جنة او الى نار ، وقال آخر : مثل العبد في عمره مثل رجل في سفينة تسير وهو قاعد كذلك العبد يدنو من الاخرة وهو غافل ، وقال :إن العبد تعرض عليه ساعاته في ليله ونهاره أربعا وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة خيرا قدمه عطا وجزاء ولذة فيسره ذلك ويغتبط به ، وإذا رءا ساعة ليس فيها منم ذكر الله فيسوءه ذلك ويتحسر حسرة لا إقالة بعدها لاتزال حسرتها أبدا الأبد ، قال ــ رحمه الله تعالى ــ فكيف بنا إذا كانت ساعاتنا وأوقاتنا في السيئات وكسب الحيات والعقارب والمصايب ، وكان قائماً في رأس درجة فسقط من قامته الى أسفل الدرجة مغشيا ، فحملناه حملا حتى ادخلناه المنزل وقعد مغشيا عليه من ضحى الشمس الى قائم الظهيرة وأفاق ، وكنت يوما بجنبه قاعدا فتنفس الصعداء فشممت رائحة قطعة اللحم المشوية فالتفت اليه لانظر الى جسمه هل احترق ، فإذاهو على حالته ، فأشفقت عليه فما أحذره ، كما قال بعض الخائفين من أبيات
... ... الماء من ناظري والنار في كبدي ... ... إن شئت فاغترفي او شئت فاقتبسي(1/67)


... قال الله تعالى في الزبور: يا داود أحببني وحببني الى خلقن وصف لهم كرمي ،وشوقهم الى لقائ ، قد أفلح من أطاعني بجوارحه كلها وأناب اليّ واستغفرني ، وإذا سمع آياتي تتلى عليه كادت عظام صدره تتقطع قطعا، فوعزتي وجلالي لاوفينه أجره يوم القيامة غير منقوص .
الفصل الخامس
أوراده وعبادته وأذكاره
وإخلاصها تعظيما لجلال الله وكبريائه كما عرف الله حق معرفته وراض نفسه رياضة جذبته الى خدمته وخافه مخافة لوقسمت على أهل دهره لكفتهم ،وشكره شكر ملإ ئكته وأنبيائه الذين عصمهم ،ورجاه رجاء أهل المحبة الذين قربهم وبكأس مودته أرواهم وبرضاهم عنه أرضاهم وتبجيلة حباهم وبمناجاته إصطفاهم فوظف ــ رحمه الله ــ أيامه ولياليه وجيع ساعاته أورادا صالجة من الذكر والفكر والصلوات والتلاوات بحيث لوفاته شيء لقضاه ولو شق مع اشتغاله عن ذلك ليس الا في خير خاطر مرض او غلبة نوم إذ لاشغل له غير ذلك لأنه قطع العلايق الدنيويه بالمرة والترهات البشرية وكل شيء يشغله إن ذكر الله ، قال يوما لبعض خواصه المريدين : يا عبد الله كل شيء شغلك إن الله فهو عليك مشؤوم ، كان ــ رحمه الله ــ تعالى إذا فرغ من صلاة الصبح يدعو الله بدعوات عميمة ويتلو الأسماء الحسنى تارة جهرا، وتارة مخافته ،ويصلي على ملائكة الله ويخص جبريل وميكائل و عزرائيل واسرافيل ،ويصلي على أنبياء الله، ويقول: الهي أجرنا من النار عشرمرات، ومن سخطك علينا، ومن كل قول يقربنا الى سخطك والنار ، ثم يقرأ تهليل القرآن ثم سورة يس وتبارك ، ثم ياخذ مسبحته ، وكانت من خشب فيسبح الله ويحمده ويهلله ويكبره ويحولق ويستغفر مائة مرة ويقرأ آية الكرسي مائة مرة وسورة الاخلاص مائة مرة ، ثم يستقبل التلاوة غيبا يأخذ ما كتب له ، وكانت التلاوة والذكر عليه سهلا ويسَّره الله عليه ، كان بعض اخوانه يحادثه في حاجة وهو يريد مسبحته ، فسأله من سأل ، قال : قرأت آية الكرسي مائة مرة ، وكان(1/68)


يخير اخوانه من أوراده ليقتدوا به ، وكان يعتقد أن أعماله كزيوف فلا يزال ذاكرا تاليا حتى يرفع الضحى ، ثم يستقبل الوضوء ، وكان يتوضأ باليسير من الماء ، كانت له ركوة يغتسل منها ويتوضأ ، ويشرب ، وكان يعرض وضوءه على أكابر العلماء من أوله الى أخره ، ويقول: هل رأيتموني مخلاً فيه بواجب اوسنة ، فيقولون: هكذا وضوء رسول الله (ص) ، كان يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد ، فإذاهو في وضوئه تغير وجهه وكثر ابتهاله الى مولاه بالدعاء والتضرع بالمأثور، وسواه ، فإذا فرغ من وضوئه تشهد لله بالوحدانية ثلاثا ، ثم يقرأ ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) ثم يقول : أسألك تمام الوضوء وتمام الصلاة وتمام المغفرة وتمام الرضى ، ثم يقول :اللهم اغفر لي يا خير الغافرين، وارحمني يا خير الراحمين ، الحمد لله الذي خلقني فهو يهدين ،والذي هو يطعمني ويسقين ،وإذا مرضت فهو يشفين ،والذي يميتني ثم يحيين ،والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ، واجعل لي لسان صدق في الاخرين، واجعلني من ورثة جنة النعيم ،واغفر لي ولوالدي ، كما ربياني صغيرا .(1/69)


وهو يروي ماقال عن رسول الله (ص) بإسناده الصحيح ، وماكان مأثورا في الوضوء وبعده ، ومن الصلوات فهو يفعله ويلاحظ عليه ويسأل عنه علماء الحديث ويباحثهم عن سندهم ، ثم يستقبل الصلاة في وقت الضحى في الحضر والسفر لايتركها فيما أعلم ، فيصلي أثنتي عشرة ركعة، في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وسورة الاخلاص عشر مرات ثم بعدها صلاة التسبيح بالجرز، ويس، وحَم السجده، وحَم الدخان ، ثم لايزال قائما يصلى حتى تكون الشمس على الرأس ، ثم يدعو ويبتهل ويستغفر ، ثم يأخذ مما عنده من الكتب فيقرأ ما تيسر ، ثم يقيل يسيرا تارة مضطجعا، وتارة قاعدا ، وكان يقول : أصحابنا عندهم اعتقاد صلاة الضحى بدعة والصلاة خير موضوع ، وهذا وقت الغفلة اشتغال الناس بأسواقهم ومعايشهم ، وأنا أروي عن رسول الله (ص) أنه قال: ( ثلاث عليّ واجبة وعليكم سنة: الضحى، والاضحى، والوتر، ) . قال ــ رحمه الله تعالى ــ : ومن البعيد أن يكون ماهو واجب على حبيب الله ورسوله بدعة ، ثم يقوم عند الزوال يأخذ سواكه ويتوضأ ، وكان إناء وضوئه لايزال عنده في منزله ليلا ونهارا الا إذا كان يشمسه فعلى باب منزله وفوقه وموضع خلواته ، فيتوضأ كما مر ، وكان له قبقبان يغسلهما ويدخل بهما الى موضع صلاته ، ثم يصلي صلاة الزوال بحسن قنوت ويدعو فيهما ويتضرع ويبتهل ويستجير من النار ، ويروي فيها خبرا: أن النار تسعر في هذه الساعة فأكثروا عنده من الاستجارة بالله من النار، ثم يصلي بعد هذه الاربع ثمان ركعات ، ثم يؤذن إذا سمعه السامع ظن أعظاءه قد تقطعت من إعظام الله ، ثم يصلي ركعتين خفيفتين ، ثم يدعوا بين الأذان والاقامة بدعوات مخصوصة ، ثم يقيم الصلاة ويقوم بين يدي الله ــ تبارك وتعالى ــ ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ، وهو يطرق ببصره مرة بعد مرة ، وكأنه شادية او أصل شجرة، فيتوجه بسكينة وخضوع واطراق قبل التكبيرة يعتقدها أخرصلاة يصليها ، كما قال (ص) : ( يا أنس صل(1/70)

14 / 50
ع
En
A+
A-