متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ،ورزق ربك خير وأبقى ،وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لانسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} ونظر الى قول الله تبارك وتعَالى بجامع الامر الكامل، والقول القاصل { واصبر يا محمد نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} ذكر في تأويلها أن كبراء قريش قالوا: يامحمد إذا أردت نقف في مقامك، ونسمع كلامك هذا أخرت عنا هولاء الذين ريحهم ريح الضَّأن ، وعنون أهل الضفة فهم النبي (ص) ليتألف قريشا فنزل هذا الوعيد في الأمر السديد ،مثل قوله في قصة ابن مكتوم { عبس وتولى، أن جأءه الاعمى ،وما يدريك لعله يزَّكا ،أويذكر فتنفعه الذكرى ،أما من استغنى < يامحمد > فأنت له تصدى ،وما عليك ألا يزَّكا } . وأهل الصفة رَضي الله عنهمَ زهاء ثلاث مائه ،منهم عمار بن ياسر ،وسلمان الفارسي ،وصهيب ،وبلال ،وابن مسعود ،وأبوذر ،وابوهريرة ، قيل: كان العشرة منهم يتداولون الثوب الواحد للصلاة الواحدة وماكان بين أحدهم وبين الأرض فراشا قط . وكان عندهم أن نعمه الله فيما صرف عنهم من الدنيا أعظم مما صرف اليهم منها .(1/46)
وعن الحسن البصري رَحمه الله تعالى: أدركت سبعين بدريا ماكان لأحدهم ثوبا ثانيا ، وطالع كتاب< الصفوة في حلية الصحابة > تجدهم هنالك وهي قمطر علوم ابراهيم الكينعي رَحمه الله تعالىَ . ونظر بعين قلبه الى ما سمع في الصحاح عن نبيه (ص) من الا حاديث المتواترة الصحيحة ،منها قوله :( ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم بأسرع فسادا فيها من حب الشرف والمال في دين المرء المسلم) ، وقد حازهما فخاف واتخذ الجنة والتجفاف ،والى قوله (ص) ب : (تكون أمتي في الدنيا على ثلاثة أطباق: أما الطبق الاول فلا يرغبون في جمع الاموال وادخاره ولايسعون في اقتنائه واحتكاره إنما رضاهم من الدنيا سدجوعة وستر عورة ورضاهم ما بلغ بهم الى الاخرة ،فأولئك الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون ، وأما الطبق الثاني فيحبون جمع المال من أطيب سبله، وصرفه في أحسن وجوهه، يصلون به أرحامهم ،ويبرون به اخوانهم ،ويواسون به فقراءهم ،ويعض أحدهم على .......أسهل عليه من أن يكتسب درهما من غير حله ،أو أن يضعه في غير وجهه ، أوأن يكون خازنا له الى حين موته ، فأولئك الذين إن نوقشوا عذبوا ،وإن عفي عنهم سلموا , والطبق الثالث ظاهر> . ونطر الى قوله (ص) رواه: الامام الجرجاني في سلوة العارفين ،فطالعه من هنالك لانه أبسط ،وبما يكون اليه أنسط لابي الدرداء قال قال : رسول الله (ص) : (تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ،فإنه من كانت الدنيا أكبر همه، أقسى الله صفته، وجعل فقره بين عينيه ،ومن كانت الاخرة أكبر همه جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه ،وما أقبل عبد بقلبه الى الله تعالى إلا جعل الله تعالى قلوب المؤمنين تغدوا اليه بالمودة والرحمة، وكان الله اليه بكل خير أسرع ) .(1/47)
وهمة سيدي رَحمه الله لَيست همة ،ولا في عزيمته أزمة، بل زهد في الدنيا ،وعف ونبذها ظهريا ،وبها استخف ،ونظر الى الاخرة والجنة والتحف ، فإذا الدنيا والاخرة بالنظر الى عظمة الله وجلاله وكبريائه تشبه لا شيء الى شيء ،فتعلق قلبه بالملأ الاعلى، وعبد ربه عز وعلى ،كما كان هو له أهلا .
سمعته يوما قال : لو لم يخلق الله جنة ولانارا أليس يحق له أن يعبد ؟ بلى !! وعزتة وجلاله ، والكلام شجون، وقلب الخايف أهوج .(1/48)
ثم نظر في صندوق علمه وخزانة صدره ما قال أمير المؤمنين: على بن أبي طالب عَليه السلآم في كلامه لهمَّام وكان به مهما ما وقدير وفي كلامه عَليه السلاَم :والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراقة خنزير في يد مجذوم ، وقال :والله لدنياكم هذه عندي أحقر من إتان دبرة ،وعقصة معزة ،والله ما اكتنزت من دنياكم تبراً ،ولاادخرت من غنايمها وفرا ،ولاحرت من ارضها شبرا ،بلى !! كان لنا فدك من كل ما أظلته السماء فشحت عليه نفوس قوم ،وما أعددت لبالي ثوبي طمرا ،ألاوإن لكل مأموم أماما يقتدي به. ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ،ومن طعمه بقرصيه ،ألاوإنكم لاتقدون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد ،ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسايج هذا القز ،ولكن هيهات أن يقودني طمع الى تخير الاطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لاعهد له بالشبع ،ولا طمع له بالقرص ، وأيَّم الله لأروض نفسي رياضة تهش معها الى القرص مطعوما ،وتقنع بالملح مأدوما ، ولأدعَّن مقلتي كعين نضب معينها ، يادنيا غري غيري ،قد بتتك ثلايا لا رجعة لي فيك ،والله لو كنت شخصا مرئيا لاقمت عليك حدود الله في عباده ،غررتهم بالاماني ،والقيتهم في المهاوي ،هيهات من وطئ دحظك زلق ،ومن ركب لججك غرق ،ومن أزور عنك وفق ،طوبى لنفس أدت الى ربها فرضها ،وهجرت في الليل غمضها ،وافترشت بوجهها أرضها ، في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ،وتجافت عن مضاجعها جنوبهم ،وهمهمت بذكر الله شفاههم ،وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم ، فاتق الله يابن حنيف ،وليكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك .(1/49)
ونظر فيما حفظه من كلام السلف والتابعين فزاده من اليقين وقيل لحاتم الأصم رَحمه الله :بَلغني أنك تجوز المفاوز بالتوكل من غيرزاد ؟ قال: بل أجوزها بالزاد ،قيل : مهٍ ؟ قال : أربعة أشياء قيل :ماهي ؟ قال : أرى الدنيا بحذافيرها مملكة الله ،وأرى الخلق كلهم عباد الله ،وأرى الاسباب والارزاق كلها بيد الله ،وأرى قضى الله نافذا وقدره ورزقه مقسوم . فقال له أبو مطيع : آهٍ ياحاتم ..نعم الزاد زادك فإنك لتجوز به مفاوز الأخرة .
ونظر الى قول سليمان الداراني رَحمه الله تعالَى : إذارأيت الاشياء كلها كشيء واحد من معدن واحد ، لمالك وأحد رأيت مالم تر، وسمعت مالم تسمع ، وفهمت مالم يفهم الخلق .
وقال امام الصدق الحسن البصري رَحمه الله تعالىَ : لوكانت الدنيا رصاصا ،والسماء نحاسا ،ثم اهتممت برزقي، لظننت أني مشرك .
وقال: وددت أن أهل البصرة في عيالي ,أن حبَّة بمثقال . وقال سفيان الثوري رَحمه الله تعالىَ : الزهد في الرياسة وحب المدح أشد من الزهد في الدينار والدرهم ،لان الدينار والدرهم قد يبد لان في طلب ذلك ، قال: وهذا باب غامض لايعرفه إلاّ من سما من العلماء . أعاد الله ( [ ن ] : سوهم ) من بركاتهم . لله در الهمَّم العالية ،والعزمات السامية ،والبصائر المنورة ،والافكار المحبرة ، لقد تعلقت بقوله (ص): ( إن الله يحب معالي الامور ،واشرافها، ويكره سفسَّافها ) .
... ... لايدرك المجد الاسيد فطن ... لما يشق عالى السادات فعَّال
... ... لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والاقدام قتال
ولله القائل تريد من إدراك المعالي رخيصة ... ولابد دون الشهد من إبر النحل
ونظر رَحمه الله تعالىَ الى الأبيات التي هي للأمام الناصر الحسن بن على عَليهم السلاَم التي أولها:
... ... نظرت الى الدنيا بعين زوال ... فآثرت نفسي والحقوق بمالي(1/50)