وطرق العلة منها الإجماع كأن تجمع الأمة أو العترة على أن هذا الحكم علته كذا ومنها النص من الكتاب والسنة وهو صريح وغير صريح فالأول هو ما دل بوضعه (ومراتبه) أربع أقواها النص في العلية بحيث لا يحتمل غيره مثل لعلة لِسبب لِمؤثر لموجب لأجل كي لا يكون كذا، ثُمَّ الظاهر في التعليل ويحتمل غيره مع كون ذلك الغير مرجوحاً كلام التعليل وبالسببية و(إن) الداخلة على ما لم يبق للمسبب ما يتوقف عليه سواه نحو {وإن كنتم جنباً فاطهروا}، وإذاً نحو: {إذاً لأذقناك}، ومن نحو: {مما خطيئاتهم}، ومنه أنَّ بالفتح مخففاً ومثقلاً لتقدير اللام فإن التقدير كالتصريح نحو: {أن كان ذا مال وبنين}، ثُمَّ ما دخلت عليه الفاء على الوصف نحو: فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دماً، أو على الحكم نحو: فاقطعوا أيديهما في لفظه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثُمَّ ما دخلت فيه الفاء في لفظ الراوي نحو سهى فسجد. والثاني يسمى تنبيهاً وإيماءاً وهو الاقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً، فمنه خبر المواقع في نهار رمضان، فإن حذف بعض الأوصاف في مثله وعلل بالباقي سمي تنقيح المناط وتهذيبه وتجريده، ومنه إنها من الطوافين عليكم ومنه خبر الخثعمية، وهو مثال النظير ويسمى تنبيهاً على أصل القياس، ومن الإيماء الفرق بين حكمين بصيغة صفة مع ذكر الوصفين نحو: للرجل سهم وللفارس سهمان أو ذكر أحدهما فقط نحو: القاتل لا يرث أو بصيغة استثناء نحو: {فنصف ما فرضتم إلاَّ أن يعفون} أو بصيغة غاية نحو: {لا تقربوهن حتى يطهرن} أو صيغة شرط نحو: إذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. أو بصيغة غيرها كالاستدراك نحو: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان} ومن الإيماء ذكر وصف مناسب مع الحكم نحو: لا يقض القاضي وهو غضبان، أو ذكر الوصف والحكم مستنبط: {وأحل الله البيع} فإن البيع وصف له قد ذكر فعلم منه حكمه وهو الصحة لا(1/26)
حيث ذكر الحكم والوصف مستنبط نحو: حرمت الخمر فلا يكون إيماءاً. ومن طرق العلة التقسيم والسبر وهو حصر أوصاف الأصل الصالحة للعليّة في بادي الرأي ثُمَّ إبطال ما عدا الذي يدعى إنَّه علة كتعيين الكيل ثُمَّ إبطال علية القوت والطعم في قياس الذرة على البر، والإبطال إما لثبوت الحكم بالمستبقى في صورة مَّا ليعلم أن لا أثر لغيره نحو: إبطال الوقت؛ لأن الملح ربوي وليس بقوت أو بطردية الوصف المحذوف بأن يكون من جنس ما علم إلغاؤه من الشارع إما مطلقاً كالطول والقصر أو في ذلك الحكم، وإن اعتبر في غيره كالذكورة والأنوثة في أحكام العتق دون الشهادة وولاية النكاح أو بعدم ظهور مناسبته، ومن طرق العلة المناسبة وتسمى الإخالة وتخريج المناط وهي تعيين العلة بمجرد إبدا المناسبة بينها وبين الحكم كالإسكار في التحريم وتنخرم بلزوم مفسدة راجحة أو مساوية لا إذا كانت المصلحة راجحة والمناسب بمقتضى ما ذكر ما تعينت عليته بذلك وفي الإصلاح وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح عند العقلاء قصده، وذلك أن العاقل إذا خير اختار المصلحة ودفع المفسدة، فإن عدم أحدهما بأن كان الوصف خفياً كالرضا في المعاملات أو غير منضبط كالمشقة في ترخص المسافر اعتبر وصف ظاهر منضبط ويسمى مظنة كالإيجاب والقبول ونفس السفر يوجد الوصف المناسب بوجوده بحيث يكون ترتب الحكم عليه محصلاً للحكمة التي هي التخفيف في السفر ودفع الحاجة في المعاملات دائماً أو غالباً؛ إذ إطلاق الحكمة على المشقة والرضا مجاز.(1/27)
تنبيه المناسب يطلق على الوصف الظاهر المنضبط المعتبر بنفسه بتحصيل المصلحة من ترتب الحكم عليه كالإسكار ويطلق على نفس الحكمة كحفظ النفس ويطلق على الوصف الظاهر المنضبط لكنه ليس معتبر بنفسه في تحصيل المصلحة من ترتب الحكم عليه كالسفر بل إنَّما اعتبر لملازمته في الأغلب وصف آخر هو المعتبر بنفسه كالمشقة التي هي المعتبرة لترتب الحكم وهو الترخص عليها تحصيلاً لمقصود التخفيف لكنها غير منضبطة، والمناسب باعتبار المقصود الذي هو الحكمة من شرع الحكم وباعتبار إفضاء الحكم إلى المقصود من شرعه وباعتبار اعتبار الشارع للوصف المناسب ثلاثة أقسام:
الأول: ينقسم إلى حقيقي عقلي، وخيالي إقناعي، فالحقيقي منه ضروري كحفظ الدين والنفس العقل والنسل والمال وذلك بالجهاد والقصاص والحدود، وقد يشرع حكم لتكميل الضروري كتحريم قليل المسكر والحد عليه لدعائه إلى الكثير ومنه حاجي في نفسه كالبيوع والإجارة وبعضه آكد من بعض بحسب اشتداد الحاجة وعدمه، وقد يكون ضرورياً كالإجارة في تربية الطفل الذي لا أم له وإطلاق الحاجي عليه باعتبار الأغلب ومكمل له كرعاية الكفاءة ومهر المثل في الصغيرة فإنه أشد إفضاء إلى دوام النكاح؛ لأنَّه إذا عقد بها غير أبيها بدون ذلك دعاها إلى الفسخ عند بلوغها، ومنه تحسيني وهو ما لا حاجة فيه ولكن فيه تحسين وسلوك المنهج الأحسن كإيجاب الشهادة في النكاح لما فيه من تمييز النكاح عن السفاح بالإظهار والإعلان والإقناعي هو المناسب في الوهم لا عند التأمل كنجاسة الخمر لبطلان بيعها فهي تناسب الإذلال والبيع الإعزاز، ومعنى النجاسة هو المنع من صحة الصلاة لا يناسب بطلان البيع وإلا لزم بطلان بيع الثوب المتنجس.(1/28)
الثاني: قد يكون حصول المقصود من شرع الحكم يقيناً كالبيع للحل وكون الحل من المقاصد بناءاً على أنَّه وسيلة للذة التي هي الانتفاع وقد يكون حصوله ظناً كالقصاص للإنزجار وقد يستوي جنبنا حصوله وانتفائه كحد الخمر للإنزجار لتقارب عدد الممتنع والمقدم، وقد يكون حصوله مرجوحاً والعدم راجحاً كنكاح الآيسة لغرض التناسل فإن عدم النسل منهن أكثر، وهذا المثال يصح إن لم يكن المقصود فائت كلحوق نسب المشرقي بالمغربية، وقد يكون المقصود مقطوعاً بنفيه وهو غير معتبر وذلك كالنكاح جعل مظنة لسقوط النطفة في الرحم المترتب عليه ثبوت النسب فإذا تزوج مشرقي بمغربية وقد علم قطعاً عدم تلاقيهما فلا يعلل بمثل هذا.(1/29)
الثالث: وهو الحاصل باعتبار اعتبار الشارع للوصف المناسب للحكم أربعة أقسام: مؤثر وملائم وغريب ومرسل؛ لأنَّه إن اعتبر عينه في عين الحكم بنص أو إجماع(1) فمؤثر، وإن اعترت عينه في عين الحكم بترتب الحكم على وفقه أي المناسب وهو ثبوت الحكم معه في محل الوصف فملائم لملائمته لجنس تصرف الشارع ولكنه لا يسمى ملائماً إلاَّ إن اعتبر بنص أو إجماع العين(2) في الجنس أو العكس أو الجنس في الجنس، وإن اعتبر عينه في عين الحم بمجرد ترتب الحكم على وفقه فقط فغريب وإن لم يعتبر العين في العين فمرسل وهو ثلاثة: ملائم، وغريب، وملغي؛ لأنَّه إن اعتبر عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه ولم يصادم نصاً فهو الأول وهو المعروف بالمصالح المرسلة؛ لأنها لم ترد إلى أصل معين وهو مقبول، وإلا فإن ثبت إلغاؤه بأن صادم النص فالثالث وإلا في الثاني وهما مردودان. ومن طرق العلة (الشبه) وهو واسطة بين المناسب والطردي؛ لأن الوصف إن علمت مناسبته لذاته فمناسب وإلا فإن التفت إليه الشارع في بعض الأحكام فشبه وإلا فطردي، وعُرِّف مما يوهم المناسبة، والفرق بينه وبين الخيالي الإقناعي: أن الإقناعي يتخيل فيه المناسبة، ثُمَّ إذا حقق النظر فيه ظهر عدمها؛ لأنَّه طردي بخلاف الشبهي فإن إيهامه المناسبة أي ظنها فيه لا يفارقه في نظر المجتهد مثاله أن يقال: إزالة الخبث طهارة تراد للقربة فيتعين الماء لها كطهارة الحدث، فإن المناسب بين كونها طهارة تراد للقربة وبين تعيين
__________
(1) ـ كتعليل ولاية المال في حق الصغير بالصغر الثابت بالإجماع وتعليل وجوب الوضوء بالخارج من السبيلين الثابت بالنص. تمت
(2) ـ كاعتبار عين الصغر في جنس الولاية الشاملة للمال والنكاح؛ لأن الإجماع على اعتباره في ولاية المال النكاح إجماع على اعتباره في جنس الولاية محل اعتباره في عين ولاية النكاح فإنه إنَّما تثبت بمجرد ترتب الحكم على وفقة حيث ثبتت الولاية معه في الجملة. تمت(1/30)