وهنا تقدم جماعة آخرون من التلاميذ ، وأشاروا إلى النار قائلين ، هي التي صنعت الشجرة فقال آخرون : كذبوا بل الذي صنعها ، الروح الحالة في هذا الفيل الأبيض. وقال آخرون : بل الروح الأزلية التي حلت في بوذا هذا . وقال آخرون : كذبتم بل هذه ، وأشار إلى الروح الحالة
في طبيعة اليابان وجبالها وأدويتها كما هو ماثل في الشجرة …
وهنا أعرض جماهير المشاهدين عنهم ، وطفقوا يضحكون قائلين : هل نحن في ( مارستان ) تلاميذ أي مجنون هؤلاء ؟
ثم قال حكيم من حكماء الجماهير المحتشدين .. مالكم ياقوم ؟ نسألكم عن صانع الشجرة ، لا عن الأشياء المكونة منها الشجرة ، فكيف تشيرون إلى الصنعة ، وتقولون هي الصانع ، فبرز تلميذ كأنه فيلسوف كبير وقال : إن كل جزء من أجزاء الشجرة المادية والمعنوية ، هو الذي صنع الشجرة ، أي أن الشجرة هي التي صنعت نفسها ، وليس لها صانع سواها .
فأخذ المحتشدون يضحكون على عقليات التلاميذ السخيفة ونظراتهم الواهمة ووزنهم الخفيف الخفيق .
وحينئذ أدرك جماعة من الحكماء أن التلاميذ ماقالوا الذي قالوه إلا لغاية مقصودة ، وأدركوا أن في المسألة سراً ، إذ التلاميذ ليسوا بمجانين ولا مخبولين ، لذلك قالوا : علمنا يقيناً أن الصنعة غير الصانع ، هلموا فاطلبوا صانع الشجرة ليكلم الجماهير . فذهب التلاميذ جميعاً ، حين رأوا الجد في طلب الصانع وما لبثوا أن أقبلوا ، وصانع الشجرة يتقدمهم ، وماكادت الحكماء والجماهير تشاهده مقبلاً حتى قابلته بعاصفة من التصفيق والهتاف ، فانحنى متقبلاً هتافهم وخطبهم قائلاً :
لقد رأيتم بعيداً كل البعد أن شيئاً من أشياء هذه الشجرة المادية أو الروحية هو الذي صنعها ، وقلتم مستحيل ذلك عقلاً وعلماً وتجربة ، بيد أنكم جميعاً آمنتم بذلك وأذعنتم له تقليداً ووراثة وتلقيناً وتعليماً .(1/31)
المحتشدون : لا . لا ، نحن لم نؤمن به ولم نذعن له ، إنما تلاميذك هؤلاء المحيطون بك ، هم الذين أعلنوا ذلك وتنادوا به .
الداعية : إن تلاميذي أرادوا أن يقربوا لكم الحقيقة ، ويكشفوا لكم ما أنتم عليه من تقاليد ووراثات وتربيات وتلقينان تنافي واقع العلم والمعرفة ، أما تعلمون أن هذه الأرض التي نعيش فيها ، وهذا الفضاء الذي تسبح فيه الأجرام المترامية في أبعاده ، وهذه الأرواح والجاذبية والمغناطيسية وكل القوى الروحية ، والملائكة والجن … وكل ماتشاهدونه أو تقرؤون عنه من أشياء الوجود هي صنعة بين أيديكم تشاهدونها وتدركونها بحواسكم وعقولكم ، أما تدل هذه الكائنات على جلال صانعها وعظيم قدرته وأنه لا يشبهها ولا تشبهه في صفة ما ، وأنه وحده المهيمن عليها المسير لها ؟
نعم انتم تعلمون هذا كل العلم ، ومع ذلك تقولون ـ تقليداً ووراثة ـ إن صانعها هو بعضها كما هو معلوم لكم …
المحتشدون : محال أن نقول : إن بعض الصنعة هو الذي صنع كل الصنعة ، بل نتحقق من طريق العلم اليقيني والمشاهدة ، أن لكل صنعة صانعاً هو
سواها بلا ريب .
الداعية : لا لا ، بل قلتم ذلك ، أما فيكم من يقول : ( نؤمن بسافستري ) إله واحد ضابط الكل خالق السماوات والأرض ، وبإبنه الوحيد ( آني ) نور من نور ، مولود غير مخلوق تجسد من ( فايو ) في بطن ( مايا ) العذراء ، ونؤمن ( بغايو ) الروح المنبثق من الأب والإبن الذي هو مع الأب والإبن يسجد له ويمجد(1) ، أما فيكم من يقول : إن الله روح محض لا تحل في شيء ، ولكنها تتجلى وتشرق على من تشاء فيعبد لأجل ذلك ؟
__________
(1) ـ هذا هو قانون الإيمان الهندي القديم ، كما نقله العلامة المستشرق ( مالغير ) في كتابه المطبوع عام 1895 ، الذي ترجمه للعربية نخلة بك شفوات عام 1913هـ ، ومعنى ( سافستري ) الشمس ، ومعنى (آني ) النار ، ومعنى (فايو) الروح ، و (مايا) هي العذراء المقدسة المشهورة في الهند القديمة وهي والدة الإله .(1/32)
أما فيكم من يعتقد أن الروح الحالة في الشمس هي الخالق العظيم ؟ أما فيكم من يعتقد أن الخالق العظيم هو الروح المحض التي حلت في برهمة وسيفا وفشنو ، ثم قلتم بعد ذلك إن هؤلاء الثلاثة ، إله واحد حيث انبثق بعضهم من بعض قبل الدهور ؟
أما فيكم من قال : إن موجد هذا الكون روح حلت في الفيل الأبيض ؟
أما فيكم من قال : إن صانع الوجود بقسميه المادي والروحي ، هو روح حالة في طبيعة اليابان ؟ أليس فيكم من أنكر كل ذلك ، زاعماً أن الصانع هو الروح التي حلت في بوذا ؟ أليس فيكم من قال : بل الروح التي حلت في البابا ؟ أليس فيكم من جعل الصانع الأعظم لهذا الوجود روح الخير وروح الشر ، التي حلت في ( يزدان وأهرمن ) ؟ أليس فيكم من جعل الصانع روحاً تحل في النوافع كالثيران والعجول ، وطير أبي قردان ، أو المضار كالأفاعي والشياطين ، أو الجميلة الوديعة كالحمام والغزلان والنساء ؟ أما فيكم من وصلت به سخافة الفكر والمهانة أن أنكر الصانع لهذا الوجود زاعماً أن العوالم المادية والروحية هي التي خلقت نفسها بنفسها أي قال : إن الصانع هو الصنعة ؟ أما فيكم …؟ أما فيكم …….؟
وهنا تنهد الداعية قائلاً : وياليت بعضكم مسلّم لبعض ولم تختلفوا على أنفسكم ، وتحتربوا من أجل هذه الأساطير والسخافات ، ولم ينكر كل فريق منكم الروح التي ألهها الآخرون غير مصدق بسوى الروح التي آمن بها هو ، واعتقدها وحدها هي التي صنعت عوالم الوجود .
والمقصود أنكم اختلفتم على أنفسكم وعلى العلم والحق والدين ، وجعلتم الأجيال تختلف بإختلافكم وتمرض بمرضكم وتتوارث سخافتكم وأساطيركم ، وتعتقدون أن ترهاتكم هذه هي وحي الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل.(1/33)
وماذا أقول لكم : وفيكم جماعات كثيرة لها من عمق الفكرة وسعة الحضارة مالم يكن لقدماء الفرس والروم واليونان والكلدان … ومع ذلك لا يزالون يعبدون أشياء كثيرة ، متخيلين أن خالق الوجود هو الروح التي زعموا أنها تحل فيها ، ولن يجدوا مثلاً يصدق عليهم إلا كلمة الأديب ( جرجي زيدان ) التي قالها حين درس تاريخ سكان مصر القدماء ورآهم يعتقدون أن الله روح تحل في الأشياء التي يعبدونها : ( لقد عبدوا كل شيء إلا الله ) .
المحتشدون : قلت حقاً ، فكيف النجاة من مضايق هذه البلايا وأغلال هاتيك التقاليد ، وكابوس رحى المورثات والتعاليم والتربيات ؟
الداعية : النجاة هي في الرجوع إلى العلم والعقل ، إلى الحرية والفهم ، إلى الإنتصاف من النفس لوجه الحق وواقع المعرفة .
المحتشدون : ألا إن الأرواح التي زينتها تقاليدنا في أعيننا وجعلتنا نعتقدها هي الله الخالق العظيم ، هي التي حملتنا ثقل هذه الأساطير وبلايا هذه الخرافات والترهات ، لذلك نطلب إليك أيها الداعية الكريم أن تخرجنا منها ، وها نحن أولاء نعلنك المساعدة .
الداعية : إنكم لا تستطيعون الخروج من أغلالها وخنادقها المظلمة ، وقيودها الحديدية الثقيلة .
المحتشدون : بل في مقدورنا ، وهل في الوجود من ينكر الحق بعد معرفته إياه ، ويؤثر عليه الجهل والخرافة ، ويحني عنقه للخرافات التي تضاد العقل وتناقض العلم والمعرفة !!(1/34)
الداعية : نعم ذلك موجود وبينكم أيضاً ، لأنكم أنتم ثلاث فرق : الفرقة الأولى ، هي التي تؤمن بفطرتها وعقلها وعلمها ، وتعلم أن لهذه المصنوعات التي تبدو ماثلة في الوجود صانعاً تدل صنعته على مدى قدرته وعظمته ، وعلى جلال صفاته التي تليق به سبحانه وتعالى ، وعلى مغايرته لها جميعاً المادية والروحية ، وهؤلاء يستطيعون أن يؤمنوا بالحقيقة متى أدركوها ، أي يستطيعون أن يؤمنوا بما أوحاه الله على خاتم الأنبياء ، ويعلموا أن الصنعة غير الصانع ، وحينئذ يمكنهم أن يأخذوا الوحي الإلهي من منبعه الصافي ، خاتم الكتب الإلهية ـ القرآن المجيد ـ .
وهنا صرخت هذه الفرقة وقالت : نؤمن بوجود الصانع العظيم ، بمعارفنا وعلومنا ، ونطلبه بإيمان وصدق وإخلاص ، ونضحي في سبيل طلبه بأنفسنا وأولادنا ولا ندخر دون ذلك مالاً أو جاهاً أوسلطاناً ، وإن انحرفت بنا عنه التقاليد والموروثات والتلقينات ، وأوصلتنا إلى اعتقاد أنه ـ تعالى ـ روح يحل في مصنوعاته من إنسان وحيوان وشجر وكواكب وشموس … نعم لا ندخر وسعاً دون معرفته العلمية الصحيحة ، لأننا نعتقد أن الإنحراف عن واقع تلك المعرفة والحق ، يغضب الخالق العظيم . لذلك نطلب منك أن تذكر لنا الدلائل القطعية التي تثبت أن خاتم وحي السماء القرآن ، جاء بهذه الحقيقة العلمية التي كشفتها في شجرتك مادمنا تحققنا علمياً أن الصنعة غير الصانع ، وفهمنا أنه تعالى واحد أزلي أبدي ، من قبل جميع المخلوقات ، وأنه هو وحده الذي لا أول له ولا آخر ، وجميع مخلوقاته الروحية والمادية ، لها بداية ونهاية لأنها خلقه وصنعته وحده .
وهنا ، ابتسم الداعية وقال : يكفي أن تقرؤوا القرآن مرة واحدة ، وتنعموا أنظاركم في آياته آية آية لتفهموا ذلك ، وها أنا أسمعكم جانباً من الآيات البينات :(1/35)