والحقيقة أن الإسلام لا يدعو إلى شعائر مجردة تؤدى بطريقة ميكانيكية بدون أي تأثير على حياة الأفراد الشخصية ، قال تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177] .
أنت تمارس يومياً الصلوات الخمس ولكن هل هنالك تأثير في سلوكك ؟ هل أنت مبتعد عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى :
{ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [ العنكبوت : 45] ؟ .
أنت تصوم ولكن هل ولّد الصوم لديك خوفاً من الجليل وعملاً بالتنزيل ؟ هل ولد في أحشائك التقوى التي تجعلك محلقاً مع الله في كل الأحوال ، راحماً للضعفاء والمساكين ، مطعماً للجائعين ؟ ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 183] ، أنت تتصدق ولكن هل أنفقت مما تحب ؟ ، قال تعالى : { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92] .
أنت تتصدق ولكن هل اجتنبت الأذية والمن ؟ قال تعالى : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263] .(1/11)


أنت قد تعمل ، وتعمل ، و …..ولكن هل عملك موافقاً لمراد الله ورسوله أم لا ؟ ضع على نفسك هذا السؤال عند أي عمل تقوم به .
فالإيمان شعب متعددة أعلاها كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " وأدناها رفع الأذى عن الطريق ، والمطلوب من الإنسان أن يكون مخلصاً لله في عبادته { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 110] ، ويتأكد من مصداقية ترديده يومياً : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5] .
ويتأكد أيضاً من موافقتها لمراد الله ورسوله خوفاً من الوقوع في البدع لأن كل بدعة ضلالة وكل ضلاة في النار .
أقسام العبادة :
وقد قسم الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام العبادة إلى ثلاثة أقسام:ـ
الأول : معرفة الله تعالى .
الثاني : معرفة مايرضية ومايسخطه .
الثالث : إتباع مايرضيه وإجتناب مايسخطه .
وقال عليه السلام : ( وهذه الثلاثة هي كمال العبادة وجميع العبادات غير خارجة منها ، فمعرفة الله عبادة كاملة لمن ضاق عليه الوقت ، وهي منفصلة من العبادة الثانية لمن تراخت به الأيام إلى اصول التعبد وهو الأمر والنهي الذي فيه رضى المعبود وسخطه ثم العمل بما يرضيه وإجتناب ما يسخطه عبادة ثالثه منفصلة من الوجهين الأولين لمن تراخى به الوقت إلى إستماع كيفية العبادة على لسان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاءت الشريعة على يديه . فهذه ثلاث عبادات من ثلاث حجج احتج بها المعبود على العباد وهي : ( العقل ، الكتاب ، الرسول ) ، فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود ، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد ، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العبادة ، والعقل أصل
الحجتين الأخيرتين ، لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما فافهم ذلك ) (1) .
حقوق الله على عبادة :
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : 124 .(1/12)


ومن المؤكد إن لله علينا حقوقاً كثيرة جداً لا نستطيع حصرها ، أو القيام بها ولكن رحمة منه بالعباد قبل منهم اليسير ، ولم يكلفهم العسير ، أمرهم تخييراً ونهاهم تحذيراً ليميز الخبيث من الطيب ويعرف الشاكر من الكافر . فيجزي الذين أحسنوا بالحسنى والذين أساءوا بما عملوا ، وللإمام زيد بن علي عليه السلام رسالة أسماها ( الحقوق ) ، وضح فيها كثيراً من الأمور الهامة المتعلقة بحقوق الله على عباده وهي ثابتة عنه برواية أبي خالد الواسطي رحمة الله تعالى عليه ، ونظراً لأهمية هذه الرسالة ، ولما تحتويه من معان عظيمة ، وحقائق جليلة فسأوردها بكاملها ، ثبت عن خالد الواسطي أنه قال : كتب أبو الحسين زيد بن علي عليهما السلام هذه الرسالة .
قال مالك بن عطية : قلت لأبي خالد : لمن كتبها ؟
قال : سأله أبو هاشم الرَّماني فقال : جُعِلتُ فداك ، أخبرني بحقوق الله علينا .
قال أبو خالد : فكتب لنا هذه الرسالة ، وقال لنا : تدراسوها وتعلموها وعلموها من سألكم ، فإن العالم له أجرُ من تعلم منه وعمل ، والعالم له نور يضيء له يوم القيامة بما علّم من الخير ، فتعلموها وعلموها ، فإن من عَلِمَ وعمل كان ربانياً في ملكوت السماوات .
قال أبو خالد رحمه الله تعالى : فكتبناها من زيد بن علي عليهما السلام ، وقرأها عليه أبو هاشم الرّماني ، وكان يَدْرُسها ويقول : " لو رعاها مؤمن كانت كفاية له " .
قال الإمام زيد بن علي عليه السلام :
( جعلكم الله من المهتدين إليه ، الدالّين عليه ، وعَصَمَكم من فتنة الدنيا ، وأعاذكم من شر المنقلب ، والحمدلله على ماهدانا وأولانا ، وصلى الله على جميع رسله وأنبيائه وأوليائه ، وخص محمداً بصلاة منه ورحمة وبركة وسلّم عليه وعلى أهل بيته الطاهرين تسليماً أما بعد :(1/13)


فإنكما سألتماني عن حقوق الله عز وجل وكيف يسلم العبد بتأديتها وكمالها ؟ فاعلموا أن حقوق الله عز وجل محيطة بعبادة في كل حركة ، وسبيل ، وحال ، ومنزل ، وجارحة ، وآلة ، وحقوق الله تعالى بعضها أكبر من بعض .
فأكبر حقوق الله تعالى : ما أوجب على عباده من حقه ، وجعله أصلاً لحقوقه ، ومنه تفرّعت الحقوق . ثم ما أوجبه من قَرْنِ العبد إلى قَدَمِه على إختلاف الجوارح ، فجعل للقلب حقاً ، وللسان حقاً ، وللبصر حقاً ، وللسمع حقاً ، ولليدين حقاً ، وللقدمين حقاً ، وللبطن حقاً ،
وللفرج حقاً ، فبهذه الجوارح تكون الأفعال .
وجعل تعالى للأفعال حقوقاً ، فجعل للصلاة حقاً ، وللزكاة حقاً ، وللصوم حقاً وللحج حقاً ، وللجهاد حقاً ، وجعل لذي الرَّحم حقاً .
ثم إن حقوق الله تتشعب منها الحقوق ، فاحفظوا حقوقه .
فأما حقه الأكبر : فأن يعبده العارف الْمُحْتَجُّ عليه فلا يشرك به شيئاً ، فإذا فعل ذلك بالإخلاص واليقين فقد تضمّن له أن يكفيه ، وأن يجيره من النار .
ولله عز وجل حقوق في النفوس : أن تستعمل في طاعة الله بالجوارح ، فمن ذلك : اللسان ، والسمع ، والبصر ، قال الله عز وجل في كتابه : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً } [ الإسراء : 36 ] .
فاللسان : يُنَزَّهُ عن الزور ، والكذب ، والخناء ، وأن تقيمه بالحق لا تخاف في الله لومة لائم ، وتحمِّله آداب الله ، لموضع الحاجة إليه ، وذلك أن اللسان إذا ألف الزور والكذب والخناء اعوَّج عن الحق ، فذهبت المنفعة منه ، وبقي ضرره ، وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه : ( يُعرف ذو اللب بلسانه ) .
وقال صلوات الله عليه : ( المرء مخبوء تحت لسانه ) وقال صلوات الله عليه وسلامه : ( لسان ابن آدم قلم المَلَك ، وريقه مداده ، يا ابن آدم
فقدّم خيراً تغنم أو اصمت عن السوء تسلم ) .(1/14)


وحق الله على المؤمن في سمعه : أن يحفظه من اللغو ، والإستماع إلى جميع ما يكرهه الله تعالى ، فإن السمع طريق القلب ، يجب أن تحذر ما يسلك إلى قلبك .
وحق الله في البصر : غضه عن المحظورات ما صغر وما كبر ، ولا تمده إلى ما منع الله به المترفين ، واترك إنتقال البصر في ما لا خير فيه ، ولكن ليجعل المؤمن نظره عِبرَاُ ، فإن النظر باب الإعتبار .
وحق الله في اليدين : قبضهما عن المحرمات في التناول ، واللمس ، والبطش ، والأثَرَة ، والخصام ، ولكن يبسطهما في الخيرات والذب عن الدين ، والجهاد في سبيل الله .
وحق الله تعالى في الرجلين : لا يسعى بهما إلى مكروه ، فكل رِجْل سعت إلى مايكره الله تعالى فهي من أرجل إبليس لعنه الله تعالى .
وحق الله في البطن : أن لا يجعله وعاء للحرام ، فإنه مسئوول عنه ، وقد كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه يقول : " نِعمَ الغريم الجوف ، أي شيء تقذفه إليه قَبِلَه منك " ، وقال صلوات الله عليه وسلامه في البطن : " ثلث للطعام ، وثلث للشراب ، وثلث للنفس " ، وقال صلوات الله وعليه وسلامه : ( إذا طعمتم فصلوا واصف الطعام ، فأخَفَّ الطعام وأطيبه وأمرأه وأثراه الحلال) ، ويجب أن يقتصد في أكله
وشربه ، فإن كثرة الأكل والشرب مقساة للقلب .
وحق الله في الطعام : أن يُسمِّي إذا إبتدأ ، وأن يحمده إذا إنتهى ، والشبع المليا هو مَكْسَلةٌ عن العبادة ، مضرَّةٌ للجسد ، ولا خير في العبد حينئذ " .
وحق الله على عبده في فرجه : حفظه وتحصينه وبابه المفتوح إليه هو البصر ، فلا تمدوا أبصاركم إلى ما لا يحل لكم ، ولا تُتْبعوا نظرة الفجأة نظرة العمد فتهلكوا ، وكفى بذلك معصية وخطيئة ، فأخيفوا نفوسكم بالوعيد واقرعوها ، فمن قرع نفسه وأخافها بالوعيد فقد أبلغ في موعظتها وتحصينها ، وتأديبها بأدب الله عز وجل .(1/15)

3 / 24
ع
En
A+
A-