وذلك إن الإمام علي وزوجته فاطمة الزهراء نذرا أن يصوما ثلاثة أيام إن برئا الحسنان مما بهما فشفاهما الله تعالى ، ولم يكن معهم طعام فاستقرض الإمام علي عليه السلام من شمعون اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختزته وجهزته للإفطار ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسكين من مساكين المسلمين ، اطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه على أنفسهم وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام وأعدوه للإفطار وقف عليهم في اليوم الثاني يتيم فآثروه على أنفسهم ووقف عليهم في اليوم الثالث أسير ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ الإمام علي عليه السلام بيد الحسنين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال : ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محراب قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها ، فساءه ذلك فنزل جبريل وقال : خذها يامحمد هنأك الله في أهل بيتك ، فأقرأه سورة الإنسان ) (1) .
كما كان الإمام علي بن الحسين عليهما السلام يقوم في نصف الليل فيحمل على ظهره الصدقات فيطوف بها على الضعفاء والمساكين دون أن يشعروا بذلك ، ولم يعرفوا أنه هو إلا بعد وفاته لإنقطاع ماكانوا يعتادونه منه ولظهور أثر ذلك في ظهره .
__________
(1) ـ ذكر هذه الرواية جمع من المفسرين ، والمحدثين ، ومنهم : الشرفي في المصابيح الساطعة : [1/316] ، والحبري في تفسيره :76 ، والزمخشري في الكشاف الجزء الرابع ، سورة الإنسان ، والحسكاني في شواهد التنزيل : [2/309] ، وفرات الكوفا في تفسيره : 199 ، وأرودها محمد بن سليمان في المساكين : [1/77] ، وغيرهم كثير ، وللرواية شواهد ومتابعات انظرها في تخريج تفسير الحبري برقم : 69.(1/81)


وهكذا يجب أن تكون الصدقات سراً بسر لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب ، قال الإمام الهادي رضي الله عنه : ( صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وإن أفضل الصدقات لما كان في السنين المسنات وذلك إكمال ماجعله الله عقبة لا ينالها إلا الصابرون ، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى : { فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 11ـ16] .
وبالصدقة ما أثنى الله على آل محمد صلى الله عليه وعليهم حين يقول : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا } [ الإنسان : 8] ، وفي ذلك ما يقول الله تعالى : { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } [ الأحزاب : 35] ، وإن الصدقة لتجلب الرزق وتدفع ميتة السوء وفي ذلك ما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( استنزلوا الرزق بالصدق ) (1) ، ومن المعروف أن الله تعالى نهى عن الصدقات المتبوعة بالمن والأذى ، فقال جل وعلا : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [ البقرة : 263] .
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/543] .(1/82)


ومهما عمل الإنسان من عمل وفيه شائبة من الرياء والمنة فإنه من الخاسرين الذي يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، والمسكين مثاب على ما أصابه من الفقر إذا صبر وشكر لأن الله لم يفقره إلا لينظر صبره ، ولم يغن الغني إلا لينظر شكره ، والأغنياء وكلاء الله فليعطوا عباد الله الضعفاء ولا يبخلوا أبداً ، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن الله جل جلاله في آخر ساعة تبقى من ساعات الليل يأمر ملكاً ينادي فيسمع ما بين الخافقين ما خلا الإنس والجن ألا هل من مستغفر فيغفر له ، هل من تائب يتب عليه ، هل من داع بخير يستجب
له ، هل من سائل يعط سؤله ، هل من راغب يعط رغبته ، يا صاحب الخير أقبل يا صاحب الشر أقصر اللهم أعط كل منفق مالٍ خلفاً ، وأعط كل ممسك مال تلفا ) (1) .
يقال إن رجلاً من بني إسرائيل كان يتناول الطعام مع زوجته ذات يوم فطرق الباب عليهما طارق .
قالوا : من الطارق ؟
قال : سائل يطلب إحساناً .
وكان أمام الرجل دجاجة فقالت زوجته : أعطه شيئاً منها .
فقال لها زوجها : لا .
وبعد ذلك طرد السائل شرّ طرده ، ومرت الأيام وإذا بهذا الرجل يصاب بالفقر الشديد ويطلق زوجته من شدة الفقر ، وتمر الأيام وتتزوج المرأة ، وتجلس مع زوجها يتناولان الطعام ذات يوم وإذا بالباب يُطرق وإذا بالطارق سائل .
وكان أمام الرجل ( زوجها الثاني ) دجاجة فقال لها زوجها : خذي الدجاجة كلها وأعطيها للسائل فلما أعطته الدجاجة رجعت حزينة باكية .
فقال لها زوجها : أحزنت لأننا تصدقنا بالدجاجة ؟
فقالت : كلا إنما أبكي أتدري من السائل ، إنه زوجي الأول .
فقال لها : أتدرين من أنا ، وأنا السائل الأول .
دع المقادير تجري في أعنتها

ما بين غمضة عين وانتباهتها
ولا تبيتنَّ إلا خالي البالي

يغير اللهُ من حال إلى حال

الإحسان إلى الجيران
__________
(1) ـ الأحكام : [ 2/532] .(1/83)


{ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ }
قال تعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ } [ النساء :36 ] .
عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لم يزل جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيؤرثه ) (1) .
الإهتمام بالجار مقصد عظيم من مقاصد الإسلام ، وهدف سام من أهدافه التي أشاد بها ونبه عليها ، ومازال جبريل الأمين يوضح ذلك ويوصي به النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حتى ظن من كثرة ما أوصاه به أنه سيؤرثه ، وهذا يدل دلالة أكيدة على أهمية الإحسان إلى الجار وضرورة مراعاة حقوقه والحفاظ عليها .
ومن المعروف أن الحقوق تختلف بإختلاف قرابة الشخص ونوع ديانته ، روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :
( الجيران ثلاثة : جار له حق واحد ، وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق ، فالجار الذي له ثلاثة حقوق هو الجار المسلم ذو الرحم ، فله
حق الجوار ، وحق الرحم ، وأما الذي له حقان فالجار المسلم ، له حق الجيرة والإسلام ، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك ) (2).
ما أروع نظم الإسلام وتعاليمه ، وحرصه على تقوية الروابط وإحترام المشاعر ، ومن المهم الإشارة إلى حقوق المسلم على أخيه المسلم :
جاء في كتاب شمس الأخبار عن السلوة بسنده إلى الإمام علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلا بالأداء أو بالعفو له :
__________
(1) ـ رواه البخاري برقم (5556) ، كتاب الأدب .
(2) ـ التصفية : 403 ، انظر تخريج الأحياء : [2/270] .(1/84)


يغفر زلته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويرد غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلته ، ويرعى ذمته ، ويعود مرضته ، ويشهد ميتته ، ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافي صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويرشد ضالته ، ويرد سلامه ، ويبر إنعامه ، ويصدق أقسامه ويواليه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالماً أو مظلوماً ، فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه ، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه ، ولا يسلمه ، ولا يخذله ، ويحب له من الخير مايحب لنفسه ، ويكره له من الشر مايكره لنفسه ) (1) .
وبإسناده أيضاً إلى علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له عليه ) (2) ، وفي حديث آخر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تباغضوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) (3) ، وهنا نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن فعل ما يؤدي إلى التباغض بيننا ، وإلى التحاسد ـ وهو تمني زوال النعمة عن الغير ـ ، والتدابر ـ وهو الإعراض عن بعضنا البعض ـ ، والتقاطع ـ وهو ترك التواصل ـ ، ونهانا كذلك عن هجران بعضنا البعض أكثر من ثلاث ، قال الإمام الهادي عليه السلام : ( ليس من أخلاق المسلمين التهاجر إنما التهاجر من أخلاق الفاسقين . والمؤمنون كما قال الله تعالى { عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47] ، وفي ذلك ما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام فيلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) (4) .
__________
(1) ـ شمس الأخبار : 186 .
(2) ـ شمس الأخبار : 186 .
(3) ـ شمس الأخبار : 186 .
(4) ـ الأحكام : [2/549] .(1/85)

17 / 24
ع
En
A+
A-