قال الله سبحانه : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل :36] ، وقال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257] ، فالعبادة لغير الله طاغوت واتباع الشيطان طاغوت وقواعد الجاهلية طاغوت والحكم بغير ما أنزل الله طاغوت ومتابعة أهل الباطل في باطلهم طاغوت والمناصرة لهم طاغوت وإتباع المبادي الهدامة طاغوت .
فيجب علينا عبادة الله وحده لا سواه نوحده في ذاته وفي صفاته فلا نشبهه ولا نجسمه ولا نشرك به ، ونعتبره الخالق للكون وظواهره ولا نعتقد بمؤثر ومدبر للعالم سواه سبحانه ولا نقبل بولاية وطاعة أحد غير الله تعالى وغير من أمرنا بموالاتهم والسير على نهجهم .

الإحسان إلى الوالدين
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }
قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } [ البقرة : 83] ، وقال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 23ـ24] .(1/61)


وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الإِِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 36] .
لقد عظّم القرآن شأن الوالدين وحض على إجلالهما ومصاحبتهما بالبر والإحسان والمعروف . وذلك لما قاما به من جهود عظيمة في رعاية الأولاد والحفاظ عليهم وتحملا في سبيلهم المشاق والمتاعب ، فاضطلعت الأم بأعباء الحمل والوضع، ومشقة الرضاع ، وسهرت الليالي ، وتحملت
أعباء النظافة والعناية المستمرة .

واضطلع الأب بأعباء الجهاد في توفير وسائل العيش والراحة لأولاده ، وتحمل مشقة تأديبهم وتربيتهم ، والصبر على أذاهم .
فمن أجل ذلك كله ، قرن الله بر الوالدين والإحسان إليهما بتوحيده وعبادته مباشرة وهذا غاية في تكريمهما ، والإحسان إليهما ، كما إن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أكد في كثير من المواقف ضرورة بر الوالدين والسعي في خدمتهما في كل الأوقات ، ومهما كانت الظروف ، روى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام في أحكامه عن الإمام زيد عن آبائه عن علي عليه السلام قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فقال : ( يا أيها الناس إن جبريل أتاني فقال : يامحمد من أدرك أبويه أو أحدهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ) (1) ، وروى الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في صحيفته قال : حدثني أبو جعفر عليه السلام قال : أدنى العقوق أف ولو علم الله شيئاً أهون من أف لنهى عنه ) (2) .
__________
(1) ـ الأحكام : [2/527] .
(2) ـ صحيفة علي بن موسى الرضا :188 .(1/62)


وهنالك الكثير من الأحاديث الدالة على فضل الوالدين وضرورة البر بهما منها ما روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سأله أي الأعمال أحب إلى الله قال : ( " الصلاة لوقتها " ، قال : قلت ثم أي ؟ قال " بر الوالدين " قلت : ثم أي ؟ قال " الجهاد " ) (1) .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : ( لنومك على السرير ارضاء لوالديك تضحكهما وتضحك معهما أفضل من جلادك بالسيف في سبيل الله ) (2) ، وروي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه ، فقال : يارسول الله إن أبي أخذ مالي فسأل الأب عن ذلك . فقال الأب : إنما أنفقته على احدى عماته أو احدى خالاته فهبط جبريل عليه السلام فقال : يارسول الله سل الأب عن شعر قاله ، فسأل الأب عن ذلك ، فقال الأب : إن الله وله الحمد والمنة يزيدنا ثباتاً يارسول الله كل يوم وليلة والله لقد قلت هذا الشعر في نفسي ولم تسمعه أذناي ثم أنشأ يقول :
غذوتُك مولوداً وعلْتُكَ يافعاً
إذا ليلة صَابَتْكَ بالسُّقْم لم أنم
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي
تخافُ الرَّدى نفسي عليك وإنَّها
فلما بلغت السِّن والغاية التي
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
وتزعم أني قد كبرت وعفتني
وسميتني بإسم المفند رأيه
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
وقد علم الله المهيمن أنني
فتبخل بالود اليسير على أب
لو تعرض الدنيا علي بأسرها
فأسأل ربي العفو عنك بمَنَّه
__________
(1) ـ صحيح البخاري برقم (496) .
(2) ـ رضا رب العباد : 100.(1/63)


تُعَلُّ بما أجني عليك وتَنهلُ
لسقمك إلا ساهراً أتململُ
طرقت به دوني فعيناي تهملُ
لتعلم أن الموت حتمٌ مؤجل
إليها مدى ماكنت فيك أؤمل
كأنك أنت المنعم المتفضل
ولم يأت لي في السن ستين كمل
وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
فعلت كما الجار المجاور يفعل
بمالي ونفسي عنك ما كنت أبخل
بك الدهر مشغوف معنى موكل
وتحجب عن عيني ماكنت أفعل
وأني مداك الدهر لا أتحول

قال جابر رضي الله عنه : فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلابيب الإبن وقال : ( أنت ومالك لأبيك ) (1) ، وكررها ثلاثاً .
وروى الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام بسنده عن الإمام زيد عن آبائه عن علي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن من تعظيم إجلال الله أن تجل الأبوين في طاعة الله ) (2) ، وروى أيضاً بلاغاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : النظر في كتاب الله عبادة ، والنظر إلى البيت الحرام عبادة ، والنظر في وجوه الوالدين إعظاماً لهما وإجلالاً لهما عبادة ) (3) .
سأل رجل الإمام الحسين عليه السلام عن قوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ماهذا الإحسان ؟ فقال : الإحسان أن تحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك مما يحتاجان إليه ، وإن كانا مستغنيين ، وأما قوله تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا } ، قال : إن اضجراك فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما إن ضرباك ، قال :
__________
(1) ـ رضا رب العباد : 103 ـ 104.
(2) ـ الأحكام : [2/527] .
(3) ـ الأحكام :[ 2/527] .(1/64)


{ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيْمَاً } ، إن ضرباك فقل لهما غفر الله لكما ، فذلك منك قول كريم ، قال : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ } ، قال : لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورقة ، ولا ترفع صوتك فوق صوتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تقدم قدامهما ) .
العقوق ومساوئه :
وهنالك الكثير من الآيات والأحاديث المحذرة من عقوق الوالدين كما إن العقل يستنكر الإساءة إلى المحسن فما بالك بالوالدين اللذين عظم جميلهما وكثر إحسانهما ، إضافة إلى ماورد في حقهما من التعظيم
والتحذير من العقوق وجعله من الكبائر .
وللعقوق مساوئ خطيرة ، وآثار سيئة تحذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي ، ومنها :
1ـ أن العاق لوالديه يلقى نفس العقوق من ولده لقد حكي أن الأصمعي قال : حدثني رجل من الأعراب قال : خرجت من الحي أطلب أعق الناس ، وأبر الناس ، كنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو ولا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد ، وخلفه شاب في يده رشاء قدٍّ تلوى يضربه به ، قد شق ظهره بذلك الحبل .
فقلت له : أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف ، أما يكفيه ماهو فيه من هذا الحبل حتى تضربه ؟
قال الشاب : إنه مع هذا أبي ، قلت : فلا جزاك الله خيراً ، قال : اسكت فهكذا كان يصنع هو بأبيه ، وهكذا كان يصنع أبوه بجده ، فقلت هذا والله أعق الناس .
قال : ثم جلت أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زنبيل فيه شيخ هرم كأنه فرخ ، فيضعه بين يديه في كل ساعة ، فيزقه كما يزق الفرخ .
فقلت له : ما هذا ؟ فقال أبي ؟ وقد خَرِفْ ، فأنا أكفله ، قلت : وهذا أبّر العرب فرجعت فقد رأيت أعقهم وأبرهم .
2ـ يشعر العاق بالقلق ، وعدم الإرتياح ، ويسوده الضيق والضنك المستمرين .
3ـ ينال العاق العذاب الأكبر يوم القيامة وفي النار يكون الجزاء الأوفى
البر في الحياة وبعد الممات :(1/65)

13 / 24
ع
En
A+
A-