بلّغها عنه رسله ، وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعاً .. تدخل فيه المجتمعات أولاً : بتصورها الإعتقادي المحرّف ، الذي لا يفرد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ التوبة : 30] ، { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 73] ، { الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ المائدة : 64] ، { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .. [ المائدة : 18] .
وتدخل فيه كذلك بشعائرها التعبدية ومراسمها وطقوسها المنبثقة من التصورات الإعتقادية المنحرفة الضالة .. ثم تدخل فيه بأنظمتها وشرائعها ، وهي كلها لا تقوم على العبودية لله وحده بالإقرار له وحده بحق الحاكمية ، واستمداد السلطان من شرعه ، بل تقيم هيئات من البشر ،
لها حق الحاكمية العليا التي لا تكون إلا لله سبحانه ..(1/56)


وقديماً وصمهم الله بالشرك لأنهم جعلوا هذا الحق للأحبار والرهبان ، يشرعون لهم من عند أنفسهم فيقبلون منهم ما يشرعونه : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة :31] .
وهم لم يكونوا يعتقدون في ألوهية الأحبار والرهبان . ولم يكونوا يتقدمون لهم بالشعائر التعبدية ، إنما كانوا فقط يعترفون لهم بحق الحاكمية ، فيقبلون منهم ما يشرعونه لهم ، بما لم يأذن به الله ، فأولى أن يوصموا اليوم بالشرك والكفر ، وقد جعلوا ذلك لناس منهم ليسوا أحباراً ولا رهبانا .. وكلهم سواء ..
وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها ( مسلمة ) !!
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها . فهي ـ وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله ـ تعطى أخص خصائص الأولوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها . . وكل مقومات حياتها تقريباً ! .
والله سبحانه يقول عن الحاكمين : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } [ المائدة : 44] ، ويقول عن المحكموين :(1/57)


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ .. } إلى أن يقول : { … فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ النساء : 60ـ65] .
كما إنه ـ سبحانه ـ وقد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم ( مسلمون ) لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركاً كإتخاذهم عيسى ابن مريم رباً يؤلهونه ويعبدونه سواء . فهذه كتلك ـ خروج من العبودية لله وحدة ، وخروج من دين الله ، ومن شهادة لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة ( علمانيتة ) وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه ( يحترم الدين ) ولكنه يخرج الدين من نظامه الإجتماعي أصلاً ، ويقول : إنه ينكر ( الغيبية ) ويقيم نظامه على ( العلمية ) بإعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعليه لغير الله ، ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! … وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده …
وإذا تعين هذا ، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الإعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في إعتباره .(1/58)


إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشعارات التي تحملها هذه المجتمعات على إختلافها .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده .
وهي من ثم تلتقي ـ مع سائر المجتمعات الأخرىـ في صفة واحدة .. صفة [ الجاهلية ] ) (1) .

والخلاصة :
إن الشرك أنواع عديدة يمكن حصرها في قسمين رئيسيين : ـ
1ـ الشرك النظري : ويتمثل في الإعتقاد بتعدد ذات واجب الوجود أو تعدد الخالق أو نحو ذلك .
ويعتبر من أسوأ أنواع الشرك قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [ النساء : 116] .
2ـ الشرك العملي : ويتمثل في تحويل العبادة أو الخضوع لغير الله تعالى أو إلتماس التشريع من غيره .
وللشرك آثارة السيئة والخطيرة على الكون والإنسان وهو من أشر أنواع الظلم لأنه يساوي بين الخالق والمخلوق وعبادة من يستحق العبادة مع من لا يستحقها ، وقد اعترف بذلك المشركون في قولهم : { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 97ـ98] ، وقد حذر لقمان ابنه إذا قال الله حاكياً عنه : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13] .
إعترافات متأخرة بصحة عقائد العدلية : ـ
ومن المعروف إن جنود إبليس اعترفوا بضلالهم وسجلوا اعترافهم بالخطأ في جميع عقائدهم المنحرفة .
ولكن اعترافهم في ذلك اليوم لا ينفعهم لأنهم في دار جزاء وكان الأحرى بهم أن يستعملوا عقولهم التي وهبها الله لهم ويخضعوا لما أتى به الرسل في الحياة العملية الحياة الدنيا .
__________
(1) ـ لا إله إلا الله منهج حياة : [44ـ49] .(1/59)


قال تعالى : { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 95ـ103] ، فنجد أنهم اعترفوا بصحة عقائد أهل العدل والتوحيد ، قال الله حاكياً عنهم :
ـ { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ، هذا إعترافهم بالتوحيد .
ـ { وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ } [ الشعراء : 96] إعترافهم بالعدل ونفي الجبر .
ـ { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلاَصَدِيقٍ حَمِيمٍ } إعترافهم بنفي الشفاعة للظالمين .[ الشعراء : 100ـ101] .
ـ { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 102] ، إعترافهم بنفي الخروج من النار .
ولكنهم اعترفوا في وقت لا ينفعهم الإعتراف فيه ولا سبيل لهم إلى السعادة لأن الله قد أكمل حججه عليهم في الدنيا وحذرهم مما وقعوا فيه ، ولكنهم لم يستيجبوا ، فوصلوا إلى ماوصلوا إليه .
نبذ المعبودات المزيفة :
ويجب على المسلمين نبذ جميع المعبودات المزيَّفة الداعية إلى الشرك والمتدخلة في حقوق الله تعالى . أو المتعارضة مع أحكامه ومنها القوانين الوضعية لأنها طواغيت حذر منها الله تعالى .(1/60)

12 / 24
ع
En
A+
A-