وقد أكد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على قاعدة العرض على القرآن الكريم فقال : ( سيكذب عليًّ كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه فهو مني وأنا قلته ، وماخالفه فليس مني ولم أقله ) (1) ، وبالرغم من المحاولات التشكيكية في هذا الحديث من قبل الحشوية فإنه يزداد صحةً يوماً بعد آخر ، وأبسط مثال على ذلك أن عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طبقته على أحاديث كثيرة ، ومنها حديث : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله ) (2) ، فقالت : ( إنه يتعارض مع قول الله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164] .
قال النووي : ( وهذه الروايات من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبدالله رضي الله عنهما ، وأنكرته عائشة ، ونسبتهما إلى النسيان والإشتباه عليهما ، وأنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ، واحتجت بقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164] ، قالت : وإنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يهودية أنها تعذب وهم يبكون عليها يعني تعذب بكفرها في حال بكاء أهلها لا بسبب البكاء ) (3) .
__________
(1) ـ أورده الإمام القاسم بن محمد في الإعتصام [1/21] ، وأخرجه أبو الفتح الديلمي في أول البرهان ـ خ ـ وهو في كنز العمال [1/176] ، ومجمع الزوائد : [1/17] ، وفي الجامع الصغير : [1/74] ، وهو من الأحاديث الصحيحة والمعتبرة عند أهل البيت عليهم السلام .
(2) ـ رواه البخاري فتح [3/151ـ152] ، ومسلم في صحيحه [2/638ـ642] .
(3) ـ شرح صحيح مسلم [5/228] .(1/51)
ويقول الشيخ الغزالي : ( إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة مايزال مثبتاً في الصحاح بل إن ( ابن سعد ) في طبقاته الكبرى كررها في بضعة أسانيد !! … وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (1) .
وهكذا تتوالى الإعترافات من هنا وهناك ، وتؤكد صحة قواعد أهل البيت في كيفية التعامل مع الأحاديث النبوية .
ثم لماذا ترفض الحشوية هذه القاعدة النبوية ، وتقبل قواعد أصحابها وبقطع النظر عن صحة حديث العرض من عدمه فإن القاعدة صحيحة ومطلوبة ، ولذلك لمّا تركوها وقعوا في إشكالات كثيرة وتلونات عديدة لم تستوعبها مصطلحاتهم وقواعدهم .
يقول الإمام القاسم بن محمد معلقاً على قبولهم لحكم الشيخ من مشائخهم في الحديث بالصحة أم بالضعف ورفضهم لحكم كتاب الله فيه : ( وناهيك أن يكون كتاب الله أعزه الله تعالى ، كأصول الخطابي والذهبي ، أوكحكم شيخ حكم بصحة الحديث ، أو عدمها مع أن المعلوم عدم عصمة ذلك الشيخ في حكمه ، ومع عدم صحة ما حكم في نفس الأمر ، وهم يوجبون رد مايخالف أصولهم وماخالف ما حكم به شيخ من مشائخهم ، وهل هذا إلا الضلال ؟! ) (2) .
وكم وكم من الأحاديث الإسرائيلية (3) التي تسربت بطريقة أو بأخرى إلى الأحاديث النبوية ، فلذا يلزم التنبه لها والتحذير منها حتى لا يقع الناس في فخ التجسيم والتشبيه ، ووصف الله بما لا يليق بجلاله ، وخير وسيلة لكشفها هو عرضها على القرآن وفقاً للأسس المذكورة ، مع إستعمال طرق التضعيف الأخرى المعتبرة .
ـ أماالشعائر التعبدية :
__________
(1) ـ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : [ 16،17،18] .
(2) ـ الإعتصام : [ 1/24] .
(3) ـ للمزيد راجع كتابنا ( تقريب مصطلح الحديث ) .(1/52)
فلا بد أن تتمثل العبودية الخالصة في ممارستها ، ، وتكون خالصة لله وحده ، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 162ـ163] ، وقال تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [ الكهف : 111 ] .
ـ الشرائع الإجتماعية والقانونية :
كذلك لا بد أن تتمثل العبودية في إستمداد الشرائع التي تنظم للبشرية حياتها ، ويلزم تنقيتها من الإستمداد من غير الله تعالى ، قال تعالى :
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [ الشورى : 21] ، وقال تعالى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [ الحشر : 7] .
فعلى هذه الدعائم الثلاث ( عبودية الإعتقاد ، عبودية الشعائر ، عبودية القوانين والشرائع ) ، تقوم شخصية الفرد المسلم ، والمجتمع المسلم ، والدولة المسلمة .
المجتمع الجاهلي المعاصر :
والإسلام في الحقيقة لا يعترف بمن لا يستشعر هذه الدعائم الثلاث استشعاراً عملياً بل يعتبره جاهلاً ، شأنه شأن المجتمع الجاهلي القديم .
ومن الممكن الإشارة إلى ما يمكن أن نسميه ( بالمجتمع الجاهلي المعاصر) وهو على ماقال سيد قطب : ( كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الإعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية ..
وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار ( المجتمع الجاهلي ) جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !!(1/53)
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية .. أولاً : بإلحادها في الله ـ سبحانه ـ وبإنكار وجوده أصلاً ، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى ( المادة ) أو ( الطبيعة ) ، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى ( الإقتصاد ) أو ( أدوات الإنتاج ) .
ثانياً : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب ـ على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! ـ لا لله سبحانه ! ثم مايترتب على ذلك التصور وهذا النظام من إهدار لخصائص ( الإنسان ) وذلك بإعتبار أن ( المطالب الأساسية ) له هي فقط مطالب الحيوان ، وهي : الطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس ! وحرمانه من حاجات روحه ( الإنساني ) المتميز عن الحيوان ، وفي أولها : العقيدة في الله ، وحرية إختيارها ، وحرية التعبير عنها ، وكذلك حرية التعبير عن ( فرديته ) وهي من أخص خصائص ( إنسانيته ) . هذه الفردية التي تجلى في الملكية الفردية . وفي إختيار نوع العمل والتخصص ، وفي التعبير الفني عن ( الذات ) إلى آخر ما يميز ( الإنسان ) عن ( الحيوان ) أو عن ( الآلة ) إذ أن التصور الشيوعي والنظام الشيوعي سواء ، كثيراً ما يهبط بالإنسان عن مرتبة الحيوان إلى مرتبة الآله !(1/54)
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية ـ وهي ماتزال قائمة في الهند واليابان والفليبين وأفريقية ـ تدخل فيه ـ أولاً : بتصورها الإعتقادي القائم على تأليه غير الله ـ معه أو من دونه ـ وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته . سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية ( علمانية ) تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله .. أي أن لها الحاكمية العليا بإسم ( الشعب ) أو بإسم ( الحزب ) أو بإسم كائن من كان .. ذلك أن الحاكمية العليا لا تكون إلا لله سبحانه ، ولا تزاول إلا بالطريقة التي(1/55)