ولو لم يستخدم أهل العدل والتوحيد هذه القاعدة الصحيحة لاستفحل داء المجسمة والقدرية والمرجئة والمجبرة وصعب دوائهم لأنهم يوردون الآيات المتشابهة التي تحتمل أكثر من معنى ليبرروا صحة عقائدهم المنحرفة التي وصفوا الله من خلالها بصفات غير لائقة وقد وضح الله مقاصدهم وكشف أستارهم وأبان زواغ قلوبهم من خلال ما يستدلون به من الآيات المتشابهات مع تركهم للآيات المحكمات وفي هذا الصدد يقول الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام :
( إعلم أن القرآن محكم ومتشابه ، وتنزيل وتأويل ، وناسخ ومنسوخ ، وخاص وعام ، وحلال وحرام ، وأمثال وعبر ، وأخبار وقصص ، وظاهر وباطن ، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضاً فأوله كآخره ، وظاهره كباطنه ، ليس فيه تناقض ، وذلك أنه كتاب عزيز على يدي رسول كريم وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول : { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42] ، ويقول : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [ البروج : 21] ، ويقول : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } [ النساء : 82] ، فالمحكم كما قال الله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [ الصمد :2 ] ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ] الشورى : 11] ، و { لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الأنعام : 103] ، وغير ذلك .(1/46)
والمتشابه مثل قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22] ، معناها بيّن عند أهل العلم ، وذلك أن تفسيره عندهم أن الوجوه يومئذ نضرة مشرقة ناعمة ، إلى ثواب ربها منتظرة ، كما نقول : لا أنظر إلا إلى الله وإلى محمد ، ومحمد غائب ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، معناه لا يبشرهم برحمته ولا يبذل لهم ما أنال أهل الجنة من الثواب ) (1) .
ويقول جده الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام : ( وقد أنكرت الحشوية(2) رد المتشابه إلى المحكم ، وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض وأن كل آية منه ثابتة واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها ولذلك وقعوا في التشبيه ، وجادلوا عليه لما سمعوا من متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه ، فاعلم ذلك ) (3) .
3ـ مراعاة سياق الآيات :
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [2/101ـ102] .
(2) ـ الحشوية هم المشبهة والمجسمة وأهل الظاهر الذين لا يسلكون سبيل التأويل للمتشابه من آيات القرآن الكريم وسمو حشوية لأن كلامهم حشو لا منطق فيه ولا عقل .
(3) ـ رسائل العدل والتوحيد : [1/126] .(1/47)
ولا بد عند الإستشهاد بآيات الكتاب من مراعاة سياقها سواء أكانت الآيات دالة على مسائل التوحيد أم مسائل العدل ، أو ما يتعلق بالعقيدة بشكل عام ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 96] ، استدلت بها بعض الفرق على أن الله خلقنا وخلق ما نعمله من الأعمال خيرها وشرها ولو رجعوا إلى السياق لوجدوا زيف قولهم وفساده ، فالسياق هو : { فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 91ـ96] ، فالآية مقترنة بما قبلها والمراد بها أن الله خلقكم وخلق هذه المادة التي تعملون منها الأصنام فكيف تعبدون ما تنحتونه مما خلق .
4ـ تحديد معنى المصطلحات :
ومما يعين على فهم الكلمة المطلوبة حصر معانيها اللغوية ومواردها في القرآن الكريم ، وكذلك شواهدها من أشعار العرب لأن القرآن نزل بلغتهم فلا مانع من الإستشهاد بكلماتهم في إيضاح معاني الكلمات ، ومن الأمثلة على ذلك ما أجاب به الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام على أحد المجبرة الذي زعم أن الإغفال من الله واستدل بقوله تعالى :(1/48)
{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [ الكهف : 28] ، فقال الإمام الهادي عليه السلام موضحاً فساد قوله ، وزيف إعتقاده : ( وأما ما سأل عنه من قول الله سبحانه : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } ، فقال : خبرونا عن هذا الذي أغفل الله قلبه عن ذكره ، هل أراد الله أن يطيعه فتوهم ، ويله وغوله إن لم يتب من الله ويحه !! إن الله تبارك وتعالى أدخله في الغفلة ، وحال بينه بذلك وبين الطاعة ، فليس كما توهم ، ألا يسمع إلى قول الله عز وجل :
{ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } ، فأخبر ، سبحانه أنه متبع في ذلك لهواه ، ضال عن رشده ، تارك لهداه ، ولو كان ذلك من الله لم يكن العبد متبعاً لنفسه هواه ، بل كان داخلاً لله فيما شاء وارتضى ، وسنفسر معنى الآية إن شاء الله ، والقوة بالله وله : إن الله تبارك نهى نبيه عن طاعة من أغفل قلبه ممن آثر هواه على هداه ، وأما معنى ماذكر الله سبحانه من الإغفال فقد يخرج على معنيين والحمدلله شافيين كافيين :
أحدهما : الخذلان من الله والترك لمن اتبع هواه وآثره على طاعة مولاه فلما أن عصى وضل وغوى وترك مادل عليه الهدى ، استوجب من الله الخذلان لما كان فيه من الضلال والكفران ، فغفل وضل وجهل إذ لم يكن معه من الله توفيق ولا إرشاد ، فتسربل سربال الغي والفساد .(1/49)
وأما المعنى الآخر : فبين في لسان العرب موجود ، معروف عند كلها محدود وهو أن يكون معنى قوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي تركناه من ذكرنا والذكر هو التذكرة من الله والتسديد والتعريف والهداية إلى الخير والتوفيق فيقول سبحانه : تركنا قلبه من تذكيرنا وعوننا وهدايتنا بما أصر عليه من الإشراك بنا والإجتراء علينا ، تقول العرب : يا فلان أغفلت فلاناً ، ويقول القائل : لا تغفلني أي تتركني ، وتقول العرب : قم مني ، أي قم عني ،فتخلف بعض حروف الصفات ببعض وتقيم بعضها مقام بعض ، قال الشاعر :
شربنا بماء البحر ثم ترفعت
لدى لجج خضر لهن نئيج
فقال : لدى للجج ، وإنما يريد على لجج ، فذكر السحاب وشربها من البحار ، واستقلالها بما فيها من الأمطار ، وقال آخر :
أغفلت تغلب من معروفك الكاسي
فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي
فقال : أغفلت تغلب من معروفك ، أي تركتها من عطائك ونوالك ومنتك وأوصالك ، ثم قال : فخلت قلبك منهم مغضباً قاسي ، فقال : منهم ، وإنما يريد عليهم غضباً ، فأقام حرف الصفة وهو ( من ) مقام أختها وهي ( على ) ، وأقام ( منهم ) مقام ( عليهم ) ، فهذا معنى الآية إنشاء الله ومخرجها ، لا ما توهم الجهّال على ذي المعالي والجلال من
الجبر لعباده والإضلال ، والظلم والتجبر بالإغفال ) (1) .
5ـ فهم الأحاديث النبوية في ضوء القرآن الكريم :
وإذا أردنا عبودية عقائدية صادقة ، فلا بد أن تكون وفق الصفات اللائقة بالله تعالى ، ومن المستحيل أن يتناقض الوحي في هذه الصفات سواء في الكتاب أو السنة فأما الكتاب فقد تقدم كيفية التعامل معه وأما السنة فلا بد أن يكون الحديث المستدل به منها في أمر العقيدة قطعياً متواتراً ، وبما لا يتعارض مع القرآن الكريم بوجه أو بآخر ، ويلزمنا عدم المجازفة في الرد والقبول .
__________
(1) ـ رسائل العدل والتوحيد : [ 2/246ـ247] .(1/50)