أما بعد فقد أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه، ولا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه، زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرت كما أصدروا، وما كان اللّه ليجمعهم على ضلال، ولا ليبصرهم بالعمى. وبعدُ فما أنت وعثمان إنما أنت رجل من بني أمية، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فإن زعمت أنك أقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم إليَّ، وأما تمييزك بينك وبين طلحة والزبير وبين أهل الشام وأهل البصرة، فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء لأنها بيعة شاملة، لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر، وأما شرفي في الإسلام، وقرابتي من رسول اللّه، وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته.(1/472)
جملة من صفات وأقوال أمير المؤمنين
أخبرنا الشريف أبو جعفر محمد بن القاسم، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبدالحميد، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن المهدي، أخبرنا علي بن الحسين، حدَّثنا أبو الحسن الطبراني، حدَّثنا يحيى بن عبد الرحمن، حدَّثنا يزيد بن هارون، حدَّثنا نوح بن قيس، عن سلامة الكندي، عن الأصبغ بن نباتة: أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال: إن لي إليك حاجة قد رفعتها إلى اللّه تعالى قبل أن أرفعها إليك فإن قضيتها أحمد اللّه تعالى وأشكرك، وإن لم تقضها أحمد اللّه تعالى وأعذرك. فقال أمير المؤمنين: أكتبها على وجه الأرض لكي لا أرى ذل السؤال على وجهك فكتب الرجل: إني فقير. فأمر له بحلة فأنشأ الرجل يقول:
كسوتني حلة تبلى محاسنها .... فاليوم أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن ثنائي نلت مكرمة .... ولست أبغي لما قد قلته بدلا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه .... كالغيث يحي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به .... فكل عبد سيجزى بالذي فعلا
فأمر له بمأتي درهم.فقال الأصبغ: قلت:يا أمير المؤمنين حلة ومائتا درهم؟ فقال:نعم.
(509) سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((أنزلوا الناس منازلهم)) . هذه منزلة هذا الرجل عندي.(1/473)
* وروى مطر البصري، قال: كنت من شباب ذلك الزمان. فبينا أنا أمشي في المسجد، وقد أسبلت إزاري، وأرخيت شعري، إذ نادى رجلٌ من خلفي يا عبد الله، ارفع إزارك واتق ربي سبحانه فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك، وخذ من شعرك إن كنت مسلماً. فإذا رجلٌ كأنه أعرابي في إزار ورداء ومعه درّة، فجئت حتى قمت من خلفه، وقلت لامريء من المسلمين: من هذا؟ فقال: أغريب أنت؟ فقلت: نعم من أهل البصرة. فقال: هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فمشيت خلفه حتى خرج من المسجد فمر بأصحاب الإبل فقال: يا أصحاب الإبل بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين تزين البيع وتمحق البركة. ثم مضى حتى أتى أصحاب التمر فإذا هو بجارية تبكي. فقال: يا هذه الجارية ما يبكيك؟ فقالت: بعثني مولاي بدرهم فابتعت من هذا تمراً، فأتيتهم فلم يرضوه، فلمَّا أتيته به أبى أن يقبله. فقال: يا عبد الله ، إنها خادم وليس لها أمر، فاردد إليها درهمها وخذ التمر، فقام إليه الرجل فلكزه. فقال له رجل من المسلمين: ويحك أتدري من هذا؟ هذا أمير المؤمنين فارتاع الرجل واصفر وأخذ التمر ونثره ورد إليها درهمها ثم قال: يا أمير المؤمنين ارض عني. فقال: ما أرضاني عنك إن أنت أصلحت أمرك. ثم مشى بوسطهم. فقال: يا أصحاب التمر أطعموا المسكين وابن السبيل فإن ربحكم يربو. ثم مشى حتى أتى أصحاب السمك، فقال: ألا لا يباع في سوقنا طافي، ثم مشى فأتى قوماً يبيعون قميصاً من هذه الكرابيس، فابتاع قميصاً بثلاثة دراهم، فلبسه فكان ما بين الرسغين إلى الكعبين فلما وضعه في رأسه، قال: بسم اللّه الحمد اللّه الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقالوا: يا أمير المؤمنين قلته برأيك أم سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا القول عند الكسوة؟ فقال: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا القول عند الكسوة .(1/474)
ثم مشى حتى أتى المسجد فجلس فيه ثم أخذ بلحيته فقال: ما يحبس أشقاها أن يخضب هذه من هذا فأشار عليه السلام إلى رأسه فوالله ما كذبت ولا كُذّبتُ.
* وعن أمير المؤمنين: ليس الخير أن يكثر مالك، ولكن الخير أن يعظم حلمك ويكثر علمك، وإن تباهى الناس بعبادة ربك سبحانه، فإن أحسنت حمدت الله، وإذا أسأت استغفرت اللّه تعالى.
* روي عن إبراهيم بن علي بن هرمة، لبعضهم في الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام:
إذا أمسى ابن زيد لي صديقاً .... فحسبي من مودته نصيب
فمن ذا بالفعال أدل مني .... وأصبر عند نازلة الخطوب
* وروي أن أمير المؤمنين علي عليه السلام كان إذا عَزَّى في ميت قال: صلى الله على محمد وآله كان أعز مفقود، أعظم اللّه أجوركم، ورحم ميتكم.
* وروي أنه كان يقول عند المصيبة: اصبروا صبر الأحرار، وإلاَّ سلوتم سلو الأغمار.
* وروي عن زيد بن علي عليه السلام أنه قصد رجلاً معزياً فقال: أخبرني أبي، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: من طال عمره كانت مصيبته في أحبابه، ومن قصر عمره كانت مصيبته في نفسه.
* وذكر أنه عزَّى الأشعث بن قيس على أخيه: إنك إن تحزن عليه فقد استحقت الرحم ذلك منك مع أنك إن جزعت يجري عليك القدر وأنت مأزور، وإن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور. ثم قال:
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة .... فتؤجر أم تسلوا سلو البهائم
خلقنا رجالاً للتجلد والأسى .... وتلك الغواني للبكا والمآتم
* وروي أنه عليه السلام قال لعدي بن حاتم وقد ذهبت عينه يوم الجمل: أعلمت ما أعاض اللّه من ذهبت كريمته في طاعته؟ فقال: لا. فقال: نور يمشي به في ظلمته وذووا العيون عمي عن سلوكها، فقال عدي: حسبي بها عوضاً. وكان عدي هذا يكنى أبا طريف وكان من مخلصي أصحابه ومحبيه ولأيامه قتل ابنه قدامه يوم الجمل، وبقي بلا عقب، وفقئت عينه في طاعته يوم الجمل.(1/475)
* وروي أن معاوية - لعنه اللّه - قال له يوماً: ما أبقى لك الدهر من حب علي؟ فقال: إن حبه يتجدد في اللسان. فقال لأصحابه: إن طيَّا وغفاراً كانوا حراديين، لا يحجون بيتاً، ولا يعظمون لله تعالى حرمة. فقال عدي: صدقت حيث كان البيت لا ينفع قربه، ولا يضر بعده، فما أزهدنا فيه، فأما إذا نفع قربه وضر بعده فقد غلبنا الناس عليه ثم خرج وهو يقول:
يجادلني معاوية بن حرب .... وليس إلى الذي يهوى سبيل
يذكرني أبا حسن علياً .... وحظي في أبى حسن جليل
يكاشرني ويعلم أن طرفي .... على ما في الضمير له دليل
ويزعم أننا قوم شقاة .... حراديون ليس لنا عقول
فكان جوابه عندي يسير .... ويكفي مثله شيء قليل(1/476)