فقال: يا نوف، أنائم أنت؟ فقلت: لا بل أرمقك بعيني يا أمير المؤمنين. فقال: يا نوف، طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، أولئك الذي أتخذوا أرض اللّه بساطاً، وماءها طيباً، وترابها فراشاً، وجعلوا القرآن شعاراً، والدعاء دثاراً، وقرضوا الدنيا قرضاً على منهاج عيسى بن مريم عليه السلام (في حديث طويل).
(14) أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، أخبرنا محمد بن يزداد، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، أخبرنا وثيمة بن موسى، أخبرنا سلمة بن الفضل، عن ابن سمعان، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( لكل شيء معدن ، ومعدن التقوى قلوب العارفين )).
(15) أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسماعيل، أخبرنا مكحول بن الفضل، أخبرنا محمد بن هشام السرخسي، أخبرنا علي بن مرداس، عن أبي معاوية الضرير، عن جويبر، عن الضحاك قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن أزهد الناس في الدنيا فقال: (( من لم ينس المقابر والبلى ، وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعد غداً في أيامه، وعد نفسه في الموتى )).
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو حسن القشيري، أخبرنا أحمد ابن عيسى [بن عبد الله] الكوفي [العلوي]، حدثني أبي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: الزاهدون في الدنيا قوم وُعظوا فاتعظوا، وأُخيفوا فحذروا، وعُلموا فتعلموا، إن أصابهم يسر شكروا، وإن أصابهم عسر صبروا.(1/41)
أخبرني أبو الحسين، الحسن بن علي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الجعابي، حدثني: القاسم بن محمد، حدثني: أبي، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: من نقله اللّه من ذل المعاصي إلى عز التقوى، أغناه اللّه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس، ومن خاف اللّه؛ أخاف اللّه كل شيء منه، ومن رضي من اللّه باليسير من الرزق رضي منه باليسير من العمل، ومن لم يستحي من طلب المعيشة خفت عليه مؤنته ونعم عياله (في الرزق) ، ومن زهد في الدنيا أنبت اللّه عز وجل الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وتذكره دائها ودوائها وعيوبها، فأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار القرار.(1/42)
باب في الزهد في الدنيا وهوانها على الله
* قال اللّه تعالى: ?وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا?[الكهف:45].
* وقال تعالى: ?وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآْخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ? [العنكبوت:64].
* وقال تعالى: ?اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأْمْوَالِ وَالأْوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ? [الحديد:20].
* وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ? [لقمان:33].(1/43)
(16) أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، حدثني: أحمد بن يحيى بن زهير، حدثني: أحمد بن إسحاق، حدثني: أبو أحمد الزبيري، حدَّثنا سفيان[الثوري]، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ببعض جسدي فقال: (( كن في الدنيا كأنك غريب ، أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور - ثم [ قال لي : يا ابن عمر ] إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك قبل مماتك، فإنك يا عبد الله ما تدري ما اسمك غداً )).
* وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلباً، ولا عن النار مهرباً، أوله عرف اللّه فأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها.
* وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: إن الدنيا أهون عليَّ من عفطة عنز في فلاة.
* وقال: حبلك على غاربك اذهبي فقد طلقتك.
* وعنه أيضاً: أخبرنا أبو حاتم أحمد بن الحسن، حدَّثنا زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي، حدَّثنا المعتمر ابن الخطاب أبو الدنيا، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: الدنيا تغر، وتضر، وتمر.
* ولبعضهم: الدنيا خمرة الشيطان فمن سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى، نادماً بين الخاسرين.
(17) وعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا )).
* وعن بعض الحكماء عن طريق عائشة: إنما الدنيا بمنزلة الماء يكفيك الري وما زاد على ذلك فهو بلاءٌ وهمٌ.
وفي بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام، عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: الدنيا كمثل الماء الملح، كلما شرب منه العطشان ازداد عطشاً حتى يقتله.
* وعن المسيح عليه السلام أنه قال: من هوان الدنيا على اللّه أنها لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عند الله إلا بتركها.(1/44)
* وعن الحسن [البصري]: يا ابن آدم، نهارك ضيفك فأحسن إليه، وإلا ارتحل يذمك، وكذلك ليلُك.
* وعن بعض الحكماء: الدنيا حانوت المؤمنين، والليل والنهار رؤوس أموالهم، وصالح الأعمال بضاعتهم، وجنة الخلد أرباحهم، ونار الأبد خسرانهم.
* مُصَنِّفُه: لو لم يكن فيها إلا أن صديقها المشغوف بها والواله بزخرف غرورها، والناد عنها المنكب على بهجتها يذمها لا تحلى طعمة إلا وتَمُرُّ ضعفيها.
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام:
حلاة دنياك مسمومة .... فلا تأكل الشهد إلا بسم
همومك بالعيش مقرونة .... فما يقطع الدهر إلا بهم
* وعنه عليه السلام: إذا اعذوذب جانب منها وحلى، مرَّ جانب [وولّى].
* وقد نظمه بعضهم شعراً فقال:
ومن عادة الأيام أن صروفها إذا سرَّ منها جانب ساءَ جانبُ
* ولبعضهم:
إن المسرَّة للمساءة موعدٌ .... أُختان رهن للعشية أو غد
وإذا سمعت بهالك فلتعلمن .... أن السبيل سبيله فتزود
* وعن حاتم الأصم، وفضيل، وغيرهما: مثل الدنيا مثل ظلك، إن تركته تتابع، وإن طلبته تمانع.
* وعن بعضهم: الدنيا خراب، وأخرب منها قلب من يعمرها، والآخرة دار عمران، وأعمرُ منها قلب من يطلبها.
* وروي في بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام: أنه سئل أبو ذر رحمة اللّه عليه: ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة فتكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب.
* وفيه أيضاً: ملك ينادي كل يوم: يا ابن آدم، لد للموت، واجمع للفنا، وابن للخراب.
* وعن بعضهم:
أرى طالب الدنيا وإن طال عمرهُ .... ونال من الدنيا سروراً وأنعما
كبانٍ بنى بنيانه فأتمه .... فلما استوى ما قد بناه تهدما
* وما هو أوقع وألخص وآخذ للقلب قوله تعالى: ?حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ? [الأنعام:44].
* وعن المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها.(1/45)