فعليك بتقوى اللّه سبحانه لقيامك، ومقعدك، وسرك، وعلانيتك، فإذا قضيت بين الخصمين فاقض بما في كتاب اللّه سبحانه وتعالى، فإن لم يتبين لك فعليك بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن لم تجد فيما فيها فاقض بما قضى الصالحون من أسلافك، فإن لم تجد فاستشر فيه إخوانك من ذوي الرأي والورع، واجتهد معهم رأيك، ثم امض قضاك، فإن القضاء فريضة محكمة نزل بها القرآن من عند اللّه تعالى، وسنّة سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا قضيت بين الناس فاخفض لهم جناحك، وليّن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وواس بينهم باللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، وأن تسأل المدعي البيّنة، وعلى المُدَّعَى عليه اليمين، فمن صالح أخاً صلحاً فاجز له صلحه، إلا أن يكون صلحاً يحل حراماً أو يحرم حلالاً، وأبرَّ الفقهاء، وأهل الصدق، والوفاء، والورع، على أهل الفجور، والكذب، والغدر، وليكن الصالحون والأبرار إخوانَك، والفاجرون والغادرون أعدائَك، وليكن كل شيء فيما عندك من أمر دينك آثر عندك من غيره، فإن أحب إخواني إليَّ أكثرهم لله ذكراً وأشدهم منه خوفاً، وأنا أرجو أن تكون منهم، وأوصيك بتقوى اللّه فيما أنت عنه مسئول وعما أنت إليه صائر، فإن اللّه سبحانه وتعالى قال: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ?[آل عمران:185].و?كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ?[المدثر:38]. وقال: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[الحجر:92، 93]. واعلموا عباد اللّه: أن اللّه سائلكم عن الصغير والكبير من أعمالكم فإن يعذب فبظلمنا، وإن يعفُ فهو أرحم الراحمين. واعلموا عباد اللّه: أن أقرب ما يكون العبد إلى المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته، ويناصحه في التوبة، فعليكم بتقوى اللّه سبحانه وتعالى فإنها تجمع من الخير ما لا خير غيرها، ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها خير الدنيا(1/426)
والآخرة. قال اللّه تعالى: ?لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين?[النحل:30]. واعلموا عباد اللّه: أن المؤمن يعمل بثلاث خصال من الأعمال منها ليثاب في الأولى والأخرى، والله يثيبه بعمله في دنياه وآخرته قال اللّه تعالى لإبراهيم: ?وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين?[العنكبوت:27]. وإما ليكفر عنه سيئاته بكل حسنة سيئة يقول اللّه تعالى: ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات ?[هود:114]. فإذا كان يوم القيامة حسبت حسناته، ثم اعطوا بكل واحدة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. قال اللّه تعالى: ?فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ?[سبأ:37]. فارغبوا عباد اللّه: فيما رغبكم ورغّبوا فيه واعملوا به وتحاضّوا عليه، واعلموا أن المتقين ذهبوا بعاجل الخير وآجله، وشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم. قال اللّه تعالى: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[الأعراف:32]. وسكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، وشربوا من أفضل ما يشربون، ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أفضل ما يسكنون، وتزودوا بأفضل ما يتزودون، وركبوا [من] أفضل ما يركبون وأصابوا لذة أهل الدنيا في دنياهم مع أنهم جيران اللّه غداً، يتمنون عليه لا يرد لهم دعوة، ولا ينقص لهم نصيب، ففي هذا عباد اللّه ما يشتاق إليه من كان له عقل، اعلموا عباد اللّه: إنكم إذا اتقيتم اللّه تعالى، وحفظتم نبيكم عليه السلام في أهل بيته، فقد عبدتموه بأفضل ما شكر عبد،(1/427)
وقد أخذتم بأفضل ما شكر، وأخذتم بأفضل الصبر والشكر، واجتهدتم بأفضل الإجتهاد، وإن كان غيركم أطول منكم صلاةً، وأكثر منكم صياماً، إذا كنتم أتقياء لله، وأنصح لأوليائه، ولأمر آل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال اللّه تعالى: ?قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? [الشورى:23]، وقال تعالى: ?قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31]، واحذروا عباد اللّه: الموت وقربه، واحذروا سكراته، وأعدوا له عدتّه، فإنه يأتي بأمر عظيم وخير لا يكون معه شر، وشر لا يكون معه خيرٌ أبداً، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، ومن أقرب إلى النار من عاملها، وليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم أي المنزلتين يصير إلى الجنة أم إلى النار، عدوُّ لله سبحانه أو وليٌّ، فإن كان ولياًّ لله سبحانه فتحت له أبواب الجنة فنظر إلى ما أعد اللّه له فيها فاشتغل بها، وكل ذلك يكون عند الموت. اعلموا - عباد اللّه - أن الموت ليس منه فوت، فاحذروه قبل وقوعه، وأعدوا له عدته، فإنكم طريد الموت، إن أقمتم به أخذكم، وإن فررتم أدرككم، وهو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، فأكثروا ذكر الموت عندما نازعتكم أماني الدنيا أنفسكم، فإنه كفى بالموت واعظاً، فإني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أكثروا ذكر هادم اللذات - يعني الموت. واعلموا عباد اللّه: أن ما بعد الموت لمن لم يغفر اللّه له ويرحمه أشد من الموت: عذاب القبر فاحذورا ضيقه وظلمته، وغربته. إن القبر يتكلم [في كل يوم] فيقول: أنا بيت الوحدة، أنا بيت الغربة، أنا بيت الدود، أنا بيت التراب، وإنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وإنما العبد المسلم إذا دفن قالت له الأرض: مرحباً وأهلاً لقد كنت من أحب خلق اللّه تمشي على ظهري، فأما إذا وليتك وصرت إليَّ لتعلم(1/428)
كيف أصنع بك فتفسح له مد بصره، وتفتح له باباً إلى الجنة. فإذا دفن الكافر قالت الأرض: لا مرحباً ولا أهلاً لقد كنت من أبغض خلق اللّه تمشي على ظهري، فإذا وليتك وصرت إليَّ ستعلم كيف أصنع بك، فتضيق موضعه، حتى تلتقي أضلاعه في حفرته، وهي من المعيشة الذي قال اللّه: ?مَعِيشَةً ضَنْكَا? [طه:124] ليسلط عليه في قبره حيات تهشم عظمه، لو أن واحدة منهن نفخت نفخة في الأرض لم ينبت زرع أبداً. واعلموا عباد اللّه أن أنفسكم وأجسادكم الرقيقة الناعمة التي يؤلمها اليسير ضعيفة عن هذا، فإن استطعتم أن ترجعوا وتتركوا ما كره اللّه لكم فافعلوا فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. واعلموا عباد اللّه: أن بعد الموت أشد من القبر يوم يشيب فيه الصغير والكبير، يسكر من غير شراب، ويسقط فيه الجنين ?تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ? [الحج:2]?يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ? [الإنسان:10]?يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ?[الإنسان:7]. إن شر ذلك اليوم وفزعه استطار حتى فزعت الملائكة الذين ليس لهم ذنوب، والسبع الشداد والجبال الأوتاد، والأرض المهاد ?وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ?[الحاقة:16]، وتغيرت ?فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَان ?[الرحمن:37]. وكانت الجبال سراباً بعد أن كانت جبالاً صماً?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ?[الزمر:68] فكيف من يعصي بالسمع، والبصر، واللسان ،واليد والرجل، والبطن ، والفرج، إن لم يغفر اللّه له ويرحمه شر ذلك اليوم، فإن صار إلى النار صارت إليه فحرَّها شديد وشرابها صديد، وقعرها بعيد، وعذابها جديد، ومقامعها حديد، لا يفتر عذابها، ولا يموت ساكنها، دار ليس لله سبحانه فيها رحمة، ولا يسمع لهم فيها دعوة، ولا يستجاب لهم عند كربه. اعلموا عباد اللّه: أن مع هذا رحمة اللّه التي لا تعجز عن العباد، وجنة عرضها كعرض(1/429)
السماوات والأرض، وحتى لا يكون معها شر أبداً ،بلذة لا تمل، وتجُّمع لا يتفرق أبداً، قد جاوروا الرحمن، وقام بين أيديهم الغلمان بصحائف من ذهب فيها الفاكهة والريحان.
(485) [ قال رجل: يا نبي اللّه، إني أحب الخيل فهل في الجنة خيل؟ قال: ((والذي نفس محمد بيده إنَّ فيها خيلاً من ياقوت أحمر عليها سروج الذهب تركبون)). فقال رجل يا نبي اللّه إني رجل يعجبني الإبل فهل في الجنة إبل؟ قال: ((نعم والذي نفس محمد بيده إن فيها لنجائب من ياقوت أحمر عليها رحائل الذهب)). قال رجل: يا نبي اللّه هل في الجنة صوت حسن فإنه يعجبني الصوت الحسن؟ قال: ((نعم والذي نفس محمد بيده إن اللّه سبحانه ليأمر كل شجرة أن تسمعه صوتاً بالتسبيح والتقديس فلا تسمع الآذان صوتاً أحسن منه، وإن فيها لسوقاً فيها صورة الرجال والنساء يركب أهل الجنة فإذا أعجب أحدهم الصورة قال: يارب اجعل صورتي مثل هذا فيجعل صورته عليها ثم إذا أعجبه صورة المرأة منهن قال: يا رب اجعل لفلانه لبعض أزواجه هذه الصورة فيرجع إليها وقد صارت تلك الصورة كما يشتهي، وإن أهل الجنة زُوَّار الرحمن في كل جمعة، فيكون أقربهم منه على منابر من ياقوت، ويكون الذين هم على أثرهم على منابر من لؤلؤ، ويكون الذي هم على أثرهم على منابر من فضة، ثم الذين يلون على منابر من مسك، فبينا هم كذلك ينظرون. إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة، والبهجة، واللذة، ما لا يعلمه إلا اللّه سبحانه وتعالى. مع أن أكبر منه رضوانه الأكبر، فلولا أن اللّه سبحانه لم يخوفنا إلا ببعض ما خوفنا من الشر، ولم يشوقنا إلا ببعض ما شوقنا إليه من الخير لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقة لنا به ولا صبر لنا عليه، وأن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه ولا بد لنا منه، فإن استطعتم أن يشتد خوفكم من ربكم وأن يحسن به ظنكم، فافعلوا فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه، فإن أحسن الناس ظناً بالله سبحانه أشدهم(1/430)