[من مواعظه عليه السلام]
* وفي بعض مواعظ أهل البيت عليهم السلام: أنَّ رجلاً جاءه فقال: يا أمير المؤمنين، عظني؟ فقال: لا تكن ممَّن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل، يقول في الدنيا قول الزاهدين، ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع، وإن منع لم يقنع، يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى ولا ينتهي، ويأمر ولا يأتمر، يحب الصالحين ولا يعمل بعملهم، ويبغض الظالمين وهو منهم، ويكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره الموت له، إن مرض ظل نادماً، وإن صح أمن لاهياً، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، تغلبه نفسه على الظن، ولا يغلبها على ما يستيقن، لا يثق من الدنيا على ما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه، إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط ووهن، فهو من الذنب والنقمة موقراً يبتغي الزيادة ولا يشكر، يتكلف من الناس ما لم يؤمر، ويضيع من نفسه ما هو أكبر، يبالغ إذا سئل، ويقصر إذا عمل، يخشى الموت ولا يبادر الفوت، يستكثر من معصية غيره ما يستقل أكبر منه في نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحتقره من غيره، فهو على الناس طاعن، ولنفسه مداهن، اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء، يحكم لنفسه على غيره، ولا يحكم عليها لغيره، وهو يُطاع ويعصي ويستوفي ولا يوفي.
[في وصف الشيعة]
* أصبغ بن نباتة، سمعت أمير المؤمنين علياً يقول: شيعتنا علماء، حكماء، بررة، أتقياء، ترى أثر الرهبانية في وجوههم.(1/416)


[أبغض الخلق إلى الله]
* عبد الله بن هبيرة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم، لمن صرحت له العبرة عما بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات، وليس يهيج على التقوى زرع قوم، ولا يظمأ على التقوى زرع قوم من سنخ أصل، ألا إن الخير كله ممن عرف قدره، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف قدره، ألا وإن أبغض الخلق إلى اللّه سبحانه رجل قمش علماً[جهلاً موضع في جهالة الأمة] عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، سماه أشباهه من الناس عالماً، ولم يغن في العلم يوماً سالماً بكّر، فاستكثر من جمع، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل، قعد بين الناس قاضياً لتلخيص ما التبس على غيره، إن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه فهو في قطع الشبهات مثل غزل العنكبوت لا يدري إذا أخطأ أخطأٌ أم صواب، خبّاط عشوات، ركَّاب جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم [فيسلم] ، ولا يعض على العلم بضرس قاطع، فيغنم يذري الرواية ذرو الريح الهشيم تبكي منه الدماء، وتصرخ منه المواريث، ويستحل بقضائه الفروج الحرام، لا مليَّ والله بإصدار ما ورد عليه ولا أهل لما قرّظ به.
أيُّها الناس عليكم بطاعة من لا تعذورن بجهالته فإن العلم الذي هبط على أبي آدم وجميع ما فضل به النبيون في خاتم النبيين محمد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في عترته وأين يتاه بكم؟ أين تذهبون؟(1/417)


[تفسير المؤلف لبعض ألفاظ كلامه عليه السلام]
معنى قوله: الذمة: العهد ?لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً? [التوبة:10]، والزعيم: الكفيل، لا يهيج على التقوى زرع قوم: أي لا يجفّ، يقال: هاج النبت إذا يبس وجفّ، ومنه قوله تعالى: ?ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا?[الحديد:20]، والسّنْخُ: الأصل، وأضاف أحدهما إلى الآخر لاختلافهما في اللفظ، وإن كان المعنى واحداً، فأراد أنه من عمل لله عملاً لم يفسد ذلك العمل ولم يبطل كما يفسد الزرع يهيج أعلاه، ويعطش أصله، ولكنه لا يزال ناضراً غضاً، وأغباش الفتنة: ظلمتها، واحدها غبش، ويقال لبقايا ظلمة الليل: أغباش الليل.(1/418)


(484) روي: كنا نصلي الفجر خلف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والنساء متلفعات بمروطهن لا يعرفن من الغبش. والهدنة: السكون، يقال: هدن الشيء إذا سكن. والمهادنه: المصالحة، سميت بذلك لأن السكون بها يحصل، أراد أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر ولا ما في السكون من الخير، وقوله: لم يغن في العلم يوماً سالماً: لم يلبث فيه يوماً تاماً، والجهال يسمونه عالماً يقال: غنى بالمكان إذا لبث فيه. وقيل للمنزل: مغنى. وللمنازل: مغان لمقامه بها. وقوله: إذا ما ارتوى من آجن: أي ماء متغير. يقال: أجن الماء وأسن إذا تغير شية عمله، ويريد ان نزلت به إحدى المبهمات: أي مسألةٌ مشكلةٌ، ويقال لها: مبهمةٌ لأنها لما أبهمت عن البيان تشبيهاً بالليل البهيم الداجي، ومنه قيل لمصمت اللون الذي لا شية له: بهيم. وقوله: خباط عشوات: أي يخبط في الظلمات وخابط العشوة قيل: هو الذي يمشي في الليل بلا مصباح، فيَعْمَهُ ويتحيّر ويضل، وربما تردّى في بير أو سقط على سبع فيقال في المثل: سقط العشاء به على سرحان، يقال: إن خارجاً خرج يطلب العشاء فسقط على ذيب فأكله. وقوله: (لا يعض على العلم بضرس قاطع): أي لم يُتقن ولم يُحكم، ويقال: عضَّ فلان على ناجذه، وكذلك الفرس إذا عض على بارحه، ويقال: رجلٌ مُنْجَذُ إذا كان محكماً وأصله من طلوع الناجذ، والعامة تقول: إنه ضرس الحلم كأن الحلم يأتي مع طلوعه ويذهب عنه طيش الصبا وترفه، وقوله: ذرو الريح الهشيم: أي ينشر الرواية كما تنفش الريح هشيم النبت يابسة وما يتفتت. ومنه قوله: ?هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ? [الكهف:45]. وقوله: (لا مليُّ والله بأصدار ما ورد عليه): أي ليس هو بكامل لرد ما يسئل عنه، ولا هو أهل لما قرظ به: أي مدح به.(1/419)


[في الكلام والصمت وغيره]
* وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: سئل أمير المؤمنين علي عليه السلام: أي شيء أحسن مما خلق اللّه تعالى؟ فقال: الكلام. فقيل له: وأي شيء أقبح مما خلق اللّه تعالى؟ فقال: الكلام. ثم قال: ابيضَّت وجوه بالكلام واسودَّت وجوه.
* وعنه أنه قال: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل.
* وعنه صلوات اللّه عليه: ألا أنبئكم بأحد الأخسرين؟ رجل جمع درهماً إلى درهم وقيراطاً إلى قيراط، فورثه عنه غيره، فوضعه في حقه، وأمسك هو من حقه.
* وعنه أنه قال: لا يزال الدين والدنيا قائمين، ما دامت العلماء يستعملون ما علموا، والجهال لا يستكبرون عما لا يعلمون،والأغنياء لا يبخلون بما خولوا، والفقراء لا يبيعون آخرتهم بدنياهم.
* وروي أنه كتب إلى سلمان الفارسي رحمه اللّه يعزيه بامرأته: أما بعد، فقد بلغتني مصيبتك يا أبا عبد الله فبلغت مني بحيث يجب لك، واعلم - يا أخي -أن مصيبة يبقى لك أجرها ، خير من نعمة يبقى عليك شكرها.(1/420)

84 / 101
ع
En
A+
A-