من الوالد الفاني، المقر للزمان، المدبر للعمر، المستسلم للدهر، الذَّامِّ للدُّنيا، الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها إليهم غداً، إلى الولد المؤمل ما لايدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورميَّة المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وقرين الأحزان، وتوأم الهموم، ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.
أما بعد: فإن فيما تبينت من إدبار الدنيا عني ،وجموح الدهر عليَّ، وإقبال الآخرة عليَّ ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما وراي، غير أنه حيث تفرد بي دون هم الناس هم نفسي، صدفني عن هواي، فصرح لي محض أمري، فافضى إلى جد لا يزري به لعب، وصدق لا يشوبه كذب، وجدتكَ يابني بعضي بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وحتى كأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا يا بني إن بقيت أو فنيت: أوصيك بتقوى اللّه، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين اللّه إن أخذت به، احي قلبك بالموعظة، وموَّته بالزهد، وقوِّه باليقين، وذلِّله بالموت، وقرِّره بالفناء، وبصِّره فجائع الدنيا، وحذِّره صولة الدهر، وفحش تقلب الأيام، فاعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره بما أصاب من كان قبلك، وسر في ديارهم ، واعتبر بآثارهم، وانظر ما فعلوا وأين حلوا ونزلوا [وعما انتقلوا فإنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة ] ونزلوا دار الغربة، وكأنك صرت عن قليل كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والنظر فيما لم تكلف، وأمسك عن طريق إن خفت ضلالته، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وانْهَ عن المنكر بلسانك ويدك، وباين من فعله بجهدك، وخض الغمرات إلى الحق، وتفقه في الدين، وعود نفسك الصبر على المكروه، وألجيء نفسك في أمورك كلها إلى إلهك، فإنك تلجيها إلى(1/406)


كهف حريز، ومانع عزيز، واخلص في المسألة لربك فإن اللّه بيده العطاء والحرمان، وأكثر الإستخارة، وتفهم وصيتي، ولا تذهبن عنك صفحاً، فإن خير القول ما نفع، واعلم يابني أنه لا غنى بك عن حسن الارتياد [وقدر] بلاغك من الزاد مع خفة الظهر،فلا تحملن على ظهرك فوق بلاغك، فيكون عليك ثقلاً ووبالاً، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زاداً فيوافيك به حيث تحتاج إليه فاغتنمه، واستغنم من استقرضك في حال غناك وقضاك في يوم عسرك، فإنَّ أمامك عقبة كئودا، وإن مهبطك منها لا محالة على جنة أو نار، فارتد لنفسك قبل نزولك[وأحسن كماتحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستهجنه من غيرك، وارض من الناس ما ترضى به لهم، ولا تقل ما لا تعلم، بل لا تقل كلما علمت، وأعلم أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فإن اهتديت لقصدك فكن أخشى ما تكون لربك عزَّ وجلَّ] ، واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض وملكوت الدنيا والآخرة قد أذن بدعائك، وتكفل بإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجيك إلى من يشفع لك إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك حين تعرضت للفضيحة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة، [ولم يعاجلك بالنقمة]، ولم يُشدِّد عليك في التوبة، فجعل توبتك التورع عن الذنوب، وجعل سيئتك واحدة، وحسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب ، وهيَّأ لك الأسباب فمتى شئت سمع دعاك، [فأفض إليه بحاجتك وبثه، ذات نفسك، واسند إليه أمورك، ولتكن مسألتك فيما يعنيك لا فيما يلزمك حباله، ويبقى عليك وباله فإنك يوشك أن ترى عاقبة أمرك حسناً أو قبيحاً] .(1/407)


واعلم يا بني أنك إنَّما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وأنك في منزل قلعة، ودار بلغة، وطريق إلى الآخرة، وأنك طريد الموت الذي لا ينجو هاربه، فاذكر ما تهجم عليه، وتفضي بعد الموت إليه، [فاجعله أمامك حيث تراه، فيأتيك وقد أخذت منه حذرك، واذكر الآخرة وما فيها من النعيم والعذاب الأليم، فإن ذلك يزهدك في الدنيا، ويصغرها عندك، مع أن الدنيا قد نعت إليك نفسها، وكشفت لك عن مساويها] ، وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهلها إليها، وتكالبهم عليها، فإنهم كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهر بعضهم على بعض، ويأكل عزيزها ذليلها وكثيرها قليلها- أي بني- واعلم أن من كانت مطيته الليل والنهار فإنه يُسار به وإن كان لا يسير، وأن اللّه قد أذن في خراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن تزهد فيما زهدتك، ورغبت فيما رغبتك فيه، وتعزب نفسك عنها، فأهل ذاك أنت، وإن كنت غير قابل نصحي فاعلم علماً يقيناً أنك لن تبلغ أملك ولن تعدو أجلك، فإنك في سبيل من كان قبلك، فاخفض في الطلب، وأجمل في المكتسب فإنه رُبَّ طلب قد جرَّ إلى حرب.(1/408)


واعلم أنك لست بائعاً شيئاً من دينك وعرضك بثمن وإن جلَُ، والمغبون من غبن نصيبه من اللّه تعالى خذ من الدنيا ما آتاك، وتولَّ عمَّن تولَّى عنك، وإن أنت لم تفعل فأجمل في الطلب، وإياك ومقاربة من ترهبه على دينك وعرضك، تباعد من السلطان الجائر، ولا تأمن خدع الشيطان، وتقول: متى أنكرت ترغب، فإنه هكذا هلك من كان قبلك، إن أهل القبلة قد أيقنوا بالمعاد، فلو سُمْتَ أحدهم بيع آخرته بدنياه لم يفعل، ولم يطب بذلك نفساً، ثم قد يختله الشيطان بخدعة ومكره حتى يورطه في هلكته بَعَرض من الدنيا يسير حقير، وينقله من شيء إلى شيء حتى يؤيسه من رحمة اللّه، ويدخله القنوط فيجد الراحة إلى ما يخالف الإسلام وأحكامه فإن نفسك أبت إلا حب الدنيا، وقرب السلاطين، وخالفتك عما فيه رشدك فاملك عليك لسانك، فإنه لا تقية للملوك عند الغضب، ولا تسأل عن أخبارهم، ولا تنطق بأسرارهم، ولا تدخل فيما بينهم، وفي الصمت سلامة من الندامة، وتلافيك ما فرطت فيه من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك، ولا تُحدِّثنَّ بشيء إلا عن ثقة فتكون كذاباً، والكذب ذلٌ، وحسن التدبير مع الكفاف أكفى لك من الكثير مع الإسراف، وحفظ ما في يديك أعود عليك من طلب ما في يد غيرك، وحسن اليأس خير من الطلب إلى لئام الناس، والعفة مع الحرفة خير من سرور مع فجور، والمرؤ أحفظ لسره، وربما شاع فضرَّه، من أكثر هجر، ومن تفكر أبصر، ومن خير حظ المرء قرين صالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم [ولا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين خليلك صلحاً، وقد يقال: من الحزم سوء الظن] ، بئس الطعام الحرام، ظلم الضعيف أفحش الظلم، الفاحشة كاسمها، والتصبر على المكروه يصم القلب، وربما كان الداء الدواء، وربما نصح غير الناصح، وإياك والمنى فإنها بضائع النوكى مع تثبيطها عن خير الدنيا والآخرة، ذَكِّ قلبك بالأدب كما تُذكَّى النار بالحطب، ولا تكونن كحاطب الليل وغثاء السيل، كفر(1/409)


النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك، بادر بالفرصة قبل أن تكون غصة، من الحزم العزم، سبب الحرمان التواني، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غايب يئوب، من الفساد إضاعة الزاد، ولكل أمرٍ عاقبتة، رب مشير بما يضر، رب دائب مفرط، رب ساع مضيع، التاجر مخاطر، لا خير في معين مهين، لا تبيتن من أمرٍ على غرور، من حلم ساد، ومن تفقه ازداد، لقاء أهل الخيرات عمارة القلوب، إياك أن تجمح بك مطية اللجاج، وإن قارفت سيئة فعجلِّ التوبة، لا تَخُن من ائتمنك وإن خانك، ولا تذع سره وإن أذاع سرك، لا تستوثقن بثقة رخاء، لا تخاطرن بشيء رجاء أكثر منه، وأجمل في الطلب يأتيك ما قسم اللّه لك، خذ بالفضل، وأحسن البذل ، وقل للناس حسناً. كلمة جامعة: أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، قلَّ ما تَسْلَمْ ممن تسرعت إليه، أو تندم إن تفضلت عليه.(1/410)

82 / 101
ع
En
A+
A-