* لبعضهم: المكارم منوطة بالمكاره لولاها ما ترك اللئام مكرمة.
* يحيى بن معاذ: الدنيا مشحونة بالعجب، ومن أعجب العجائب نجاة هذه النفس من النار، وكيف تنجو من النار، وإن إنابتها كلها في عمل يجر له ذلك العمل إلى النار.
* ولبعضهم: وأريد رجل على ولاية فأبى. فقال: والله لإن لم تل لأضربن عنقك. فقال: والله ما على الأرض شيء أهون عليَّ من عنقي أن تذهب في الحق فشأنك بها.
* حكي أن رجلاً من الصالحين رُمِيَ بسهم في صدره. فقال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا، حتى رأيت على نفسي جراحة، فكم من جراحة جرحتني؟(1/396)
باب في فنون كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام
[كلامه في صفة المتقين، والعترة عليهم السلام]
* روى الصادق جعفر بن محمد أن رجلاً من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام قام إليه يقال له: همام، وكان عابداً مجتهداً، فقال: يا أمير المؤمنين، صف لي المتقين كأني انظر إليهم، فتثاقل عن جوابه. وقال: يا همام، اتق اللّه سبحانه وأحسن ف?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل: 128] فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أكرمك بما خصك به، وفضلك بما آتاك وأعطاك لما وصفتهم لي. فقام على رجليه فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على نبيه عليه السلام ثم قال:(1/397)
أما بعد: فإن اللّه خلق الخلق حيث خلقهم غنياً عن طاعتهم، لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه [منهم]، وقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم، وإنما أهبط إليها آدم وحواء عليهما السلام عقوبة لما صنعا، حيث نهاهما فخالفاه، وأمرهما فعصياه، فالمتقون فيها هم أهل الفضائل منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، وخضعوا لله بالطاعة، فغضوا أبصارهم عما حرم اللّه عليهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء، رضوا عن اللّه بالقضاء، لولا الآجال التي كتب اللّه لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رءاها فهم فيها متكئون، وهم والنار كمن قد رءاها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، ومؤنتهم في الإسلام عظيمة، صبروا أياماً قصاراً أعقبتهم راحة طويلة رب رجال أرادتهم الدنيا فلم يريدوها ، وطلبتهم فأعجزوها، أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا، ُيحزَّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرَّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت أنفسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم، جاثين على ركبهم يحمدون جباراً عظيماً، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وأبصارهم، فاقشعرَّت جلودهم، ووجلت منها قلوبهم، وظنوا أن صهيل جهنم وزفيرها وشهيقها في أصول آذانهم، مفترشين جباههم وأكفهم وأطراف أقدامهم ، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى اللّه سبحانه في فكاك رقابهم، وأما النهار فحكماء علماء بررة أتقياء، قد براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظرهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض. يقول: قد خولطوا وقد خالط القوم أمر عظيم. إذا هم ذكروا عظم الله وشدة سلطانه مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال القيامة(1/398)
فطاشت حلومهم، وذهلت عنه عقولهم، فإذا استفاقوا من ذلك بادروا إلى اللّه سبحانه وتعالى بالأعمال الزكية، لا يرضون لله بالقليل ولا يستكثرون له الجزيل، إنهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، إن زُكّي أحدهم خاف مما يقولون، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، فإنك علاَّم الغيوب ، ومن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، وحرصاً على علم، وفهماً في فقه، وكيساً في رفق، وشفقة في يقظه، وقصداً في الغنى، وخشوعاً في العبادة، وتجملاً في الفاقة، وصبراً في الشدة، ورخصة للمجهود وإعطاءاً في حق، ورفقاً في كسب، وطلباً في الحلال، ونشاطاً في الهدى، وتحرجاً عن الطمع، وبراً في العامة، واعتصاماً عند شهوة، لايغره ثناء من جهله، ولا يدع إحصاء عمله، ليعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل يمسي وهمه الشكر، ويصبح وشغله الذكر، ويبيت حذراً ويصبح فرحاً.
فلما انتهى آخره شهق همام شهقة كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين: كذا العظة البليغة في أهلها.(1/399)
ومن مواعظه صلوات اللّه عليه
* اتقوا اللّه سبحانه تقية من شمَّر تجريداً وجدَّ تشميراً، وكمَّش في مهل وأشفق عن وجل، ونظر في كرة الموئل وعاقبة المصير، ومغبة المرجع، وكفى بالله منتقماً وبصيراً، وكفى بالجنة ثواباً ونوالاً، وبالنار عقاباً ونكالاً، وكفى بكتاب اللّه حجيجاً وخصيماً.
* وعن جابر بن عبد الله أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين علي عليه السلام. فقلت: يا أمير المؤمنين عظني، قال: يا جابر: اجعل الدنيا دار انتقال فإنها دار زوال ومنزل بلا، وهي كسحاب الصيف وظل الغمام وزهرة الربيع وأحلام المنام، يا جابر، هي كالغذاء المشوب بالسم، وقد رغب عنها الأولياء، وتنافس فيها الأشقياء، فأسعد الناس فيها أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أكلفهم بها، وهي كالشبكة المنصوبة تقبض من دخلها وتخطىء من جاوزها.
* وعنه عليه السلام: إنَّ المؤمن جاد للّه سبحانه بأعظم منازل الدنيا وهي الرئاسة ورغب إلى اللّه تعالى في أعظم منازل الآخرة وهي الجنة.
* ومن كلامه: وإذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه.
* ومن كلامه: رحم الله امرءاً عمل صالحاً، وقدم خالصاً، واكتسب مذخوراً، واجتنب محذوراً، وبنى غرضاً، وأخذ عوضاً، كابد هواه، وكذَّب مناه، وجعل الصبر مطية نجاته، والتقوى قوة زاده.
* ومن كلامه: الدنيا دار ممر تؤدي إلى دار مقر، الناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها.(1/400)