باب آخر ولما حضر يعقوب الموت
*ولما حضر يعقوب الموت ?قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ?..الآية [البقرة:133]. ففرح يعقوب وقال: يا بني احفظوا عني خصلتين: ما انتصرت من ظالم بقول ولا فعل، ولا رأيت من أحد حسنة إلا أفشيتها ولا سيئة إلا كتمتها.
* ولمّا أثخن عمّار بن ياسر -رحمه اللّه- ضحك وقال: الآن ألقى الأحبّة محمَّداً وحزبه.
* وروي أنّ بلالاً لمّا احتضر بدمشق جعل يقول: غداً ألقى الأحبّة محمداً وحزبه.
* ولما احتضر معاذ قال لجاريته: ويحك هل أصبحنا؟ قالت: لا. ثم قالت: بعد ساعة: نعم. قال: أعوذ بالله من صباح إلى النار. ثم قال: مرحباً بالموت مرحباً، اللهمَّ إنك تعلم أني لم أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار. ولكن كنت أحب البقاء في الدنيا لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حِلَقِ الذكر.
* وأُغْمِيَ على أبي الدرداء عند احتضاره، فلما أفاق إذا بلال عنده، قال: قم فاخرج عني. ثم قال: من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ من يعمل لمثل ساعتي هذه؟ فلم يزل يرددها حتى قبض.
* ولما احتضر خالد بن الوليد قال: لقد طلبت الشهادة فلم يقدر لي الموت إلا على الفراش، وما شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا اللّه من ليلة بتها وأنا مترس بترسي والسماء تلهيني انظر حتى يغير الكفار.
* عبد الواحد بن يزيد: حَضَرْتُ وفاة محمد بن واسع فجعل يقول لأصحابه: السلام عليكم إلى النار أو يعفو الله.
* كثَيِّر بن سنان: دخلنا على حبيب أبي محمد، وهو في الموت فقال: طريقان لم أسلكهما، فلا أدري ما يصنع بي؟ فقال كثير بن سنان: أبشر يا محمد، أرجو أن لا يفعل بك إلا خيراً. فقال: ما يدريك ليت الكسرة من الخبز التي أكلتها لا تكون سماً علينا.(1/241)
* ولما حضر عمر بن عبدالعزيز الموت فقالوا له: اعهد إلينا فقال: إني أحذركم مثل مصرعي هذا، فإنه لا بُدَّ لكم منه فإذا وضعتموني في لحدي وسوَّيتم اللِّبْنَ عليَّ فانزعوا منها لِبْنَةً وانظروا ماذا لحقني من دنياكم.
* يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته قيل له: ما هما؟ قال: يؤخذ ماله منه كله، ويُسئلُ عنه كله.
* ولما احتضر عبد الله بن المبارك وبلغ النزع، فتح عينيه إلى السماء فضحك، وقال:?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ?[الصافات:61].
* وبكى عامر بن عبد الله وهو يكابد النزع فقيل له: في ذلك. فقال: لست أبكي على الدنيا، ولا من الموت، ولكن لطول مكثي في التراب بغير ظمأ الهواجر، وسهر الليالي.
* مكحول الشامي لا يوجد إلا باكياً، فدخل عليه وهو في مرضه الذي مات منه، وهو يضحك، فقيل له: في ذلك. قال: ولِمَ لا أضحك وقد دنى مني فراق من كنت أحذره، وسرعة القدوم على من كنت أرجوه وأؤمله.
* مُصَنِّفُه: أيُّها المغرور تنبَّه من رقدة الغافلين، وشمر الساق فإن الدنيا ميدان السابقين، وتحرز عن دفع الأيام بتسويف الأماني، وخدع الآمال. أما ترى الموت كيف يحول بين المرء وبين أهله، ويحول بينه وبين عمله؟ ولا يلوي على غضاضة شباب ولا هرم ولا رضيع ولا مراهق، ولا يهاب الملوك لثروتهم، ولا يحقر الفقراء لفاقتهم، إلى متى أفعل كذا أسافر ثم أرجع ؟ وليس في حساب أعمالك لقاء ملك الموت وسفر الآخرة، والحلول بأرض الساهرة، والغيبة التي لا رجعة لها، وما الأمان عن أن تكون صبيحتك صبيحة من لا عشية له ، أو عشيتك عشية من لا صبيحة له، استوجب فيها النار وإلى متى تسير بتجدد الأيام عليك ومهل الأهله، أوليس هو هدم عمرك؟ وانقضاء دهرك؟ وتقارب ما لابد لك ولكل أحد منه؟ وهل ترضى من نفسك لنفسك بما أنت فيه؟.
* لبعضهم:
يمرُّ بي الهلال لهدم عمري .... وأفرح كلما طلع الهلال(1/242)
ألم يأن لك الإنابة والإستقالة والتيقظ؟ لتشمر بالسباق قبل التفاف الساق بالساق، فهناك كشف الغطاء فنجا السابق وهوى الفاسق.
* وعن ابن سماك: يا أخي ، إن الموتى لم يبكوا من الموت ، ولكن بكوا من حسرة فاتتهم، دار لم يتزودوا منها، وحَلَّوا داراً لم يتزودوا لها.
* وعن عمرو بن العاص: لما حضرته الوفاة أخذ يعد سوالفه. ثم قال: نكتسب بعد ذلك بالسلطان وأشياء فلا أدري علي أم لي؟!
* مُصَنِّفُه: ولو لم يكن عند الموت إلا المغفرة لحق لك أن تهتم لما يدهمك من الحياء من اللّه تعالى ،إذ أنعم عليك بما لا يعد ،فزرعته إلى مخالفته،فكيف وأنت على مركب الخطر لا تدري إلى النار يؤمر بك أم إلى الجنة؟
* وبلغني عن سليمان التيمي قال: حضرت عند بعض أصحابي ،وهو يجود بنفسه فرأيت من فرط جزعه ما قلت له: ما هذا الجزع؟ وقد كنت بحمد اللّه وكنت قال: من أحق بالجزع مني؟ لو جاءتني المغفرة من اللّه لهمني الحياء منه فيما أفضيت إليه.
* ولما حضر أبا بكر بن المنكدر الموت وحوله الفراء، فجعل يبكي فقال: غفر اللّه لك، تبكي وترجو أن تكون قد دنى سرورك وراحتك؟ قال: والله ما أبكي إلا مخافة أن أكون أذنبت ذنباً ليس له عندي بال وهو عند اللّه عظيم: يعني بالبال: الخطر.
* ولما حضرت أبا هريرة الوفاة فبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: بُعد المفازة، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وعقبة كؤود، والمهبط منها إلى الجنة أو إلى النار.
* وقيل للحسن عليه السلام: لما حضرته الوفاة وهو يبكي: ما يبكيك؟ قال: أقدم على سيد لم أره، وأسلك طريقاً لم أسلكها أخرجوا سريري إلى صحن الدار حتى انظر في ملكوت السموات.
* ولما حضرت أبا عمران الجوني الوفاة بكى. فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت تفريطي.
* وقال أصحاب أبي سليمان الداراني عند موته: أبشر فإنك تقدم على غفور رحيم. قال لهم: ألا تقولون أحذر فإنك تقدم على رب يحاسب بالصغيرة ويعاقب على الكبيرة.(1/243)
* أبو سعيد الداراني: دخلت على عابد قد احتضر وهو يبكي. فقلنا: يرحمك الله. ما يبكيك؟ فأنشأ يقول:
وحق لمثلي البكا عند موته .... ومالي لا أبكي وموتي قد اقترب
ولي عمل في اللوح أحصاه خالقي .... فإن لم يجد بالصفح صرت إلى العطب
* قال حزم: حضرنا مالك في مرضه الذي مات فيه وهو يجود بنفسه فرمى بطرفه في السماء، قال: اللهم، إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لبطن ولا لفرج.
* لبعضهم: أسوأ الناس حالاً القائل عند موته دخلتها جاهلاً، وأقمت فيها جائراً، وخرجت منها كارهاً.
* مُصَنِّفُه: انظر رحمك اللّه هل تمثل بمصيبة الموت مصيبة؟ انتقال من عمران إلى خراب، ومن فرحة إلى ترحة، ومن دار تزوُّد إلى دار تلبد، ومن إحسان إلى حرمان، ومن نعماء إلى بأساء، ومن لذَّات إلى تنغيصات، ومن عز إلى ذل، ومن سعة إلى ضيق، ومن ضياء إلى ظلم، ومن اختيار إلى اضطرار، ومن بلاء إلى بلاء، ومن رخاء إلى شدة، ومن نعمة إلى نقمة، ومن أُلفة إلى وحشة، ومن خلطة إلى وحدة، ومن رجاء إلى إكدا، ومن أمل إلى يأس، ومن روح إلى بأس، ومن استدراك إلى استهلاك، ومن مضجع يهناك إلى مضجع لا يهناك، ولا يقودك إلا عملك، ولا يفتديك إلا سلفك، تبلى وهو معك جديد لا يبلى، وتفنى وهو معك حي لا يفنى، يدفن معك، ويحشر معك، إن كان حسنة بالإحسان، وإن كان سيئة فبالخسران، مرهون بذنوبه وحباله وجرائره مشتبكة به فلا ترجو النجاة، ولا ترد المهواة ببدنه مقترب وعنا مغترب فإن نجا عند لقاءه وإلا فإني لا أخالك ناجياً.
* وبلغني أن صلة بن أشيم قد كان خرج إلى جنازة بعضهم، فإذا به قد دفن وبسطت على قبره ملاءة وحواليه عدد كالجيش وغيره فكشفها، وقال: يا فلان،
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً.
فبكى الجميع.(1/244)
* وكفاك بنبأ الموت عظة إما جنة، وإما نار، وإما شقاء لا يذهب، وإما رخاء لا ينصب، فما وقت يأتي على ابن آدم أعظم من وقت الموت. فعجباً لقلبك!! كيف لا يتصدع؟ ولجسمك كيف لا يتزعزع؟ ولركنك كيف لا يتضعضع؟ ولروحك كيف لا تنتزع؟، ولنفسك كيف لا تنقطع؟ الآن الآن فما هو آت قريب فكأنك في حياض المنايا متوسط ، وفي شدائد غمراتها متشحط، وقد تغيرت حالك، واضطربت أوصالك، فاحذر الدنيا فإن مكائدها راصدة، وحتوفها قاصدة، ونعمها بائدة، وصحيبها مرغوم، وحريصها محروم، وصحيحها مسقوم، ومُعِزَّها مذموم، فحتى متى؟ وإلى متى لا تتفكر في معاد؟ ولا تنظر لرشاد؟ وتعيش عيش البهائم؟ وتقيم إقامة الهائم؟ ليلك باطل، ونهارك مماطل، ونهايتك الدينار والدرهم، وغايتك الرقة والتنعم، وسعيك في اكتساب الأوزار، وما يرديك إلى وبيل النار، تعمل عمل الملحدين، وتأمل أمل المؤبدين، وتتصرف تصرف الآمنين، وتجمع للوارثين، وتتهاون بأمر رب العالمين، فما أجرأك على نفسك يا مسكين.(1/245)