* مُصَنِّفُه: كيف أصبح من يتقلَّب في أخطار الدنيا والآخرة؟ القبر موضعه، والبلى مرجعه، والسؤال موعده، والحساب مشهده، يقطع عيشه غرقاً في الهموم والأحزان، حليف كرب الأفكار حتى يعبر جسر القيامة، ويتجاوز مواقف أهوالها، وصعاب عقابها، فإما النعمة الدائمة، أو النقمة اللازمة، كيف أصبح من لا ينال نعمة إلا بزوال أخرى، ولا يأتيه يوم إلا بفراق آخر، ولا يذوق حلوًا إلا بمر، ولا تمنحه الأيام فائدة إلاَّ وتستلب أخرى؟ كيف أصبح مَنْ كل يوم أقرب إلى ما يخاف وأبعد عما يرجوا؟ أم كيف أصبح مَنْ كل يوم مضى عليه مضى بعضه؟
* قال حوشب لحسان بن سنان: ما حالك يا أبا عبد الله؟ قال: حال من يموت، ثم يبعث، ثم يحاسب.
* وقيل لأبي الدرداء: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بخير إن نجوت من النار.
* وكان الربيع بن خيثم إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين ، نستوفي أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
* وقيل لمالك بن دينار: كيف أصبحت يا أبا يحيى؟ قال: كيف يصبح من منقلبه من دار إلى دار ولا يدري إلى الجنة يصير أم إلى النار.
* وقيل لحبيب العجمي: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: أصبحنا مربوبين بالنعمة مُوَّقَّرِيْنَ بالمعصية يتحبب إلينا بالنعم وهو عنا غني، ونتبغض إليه بالمعاصي ونحن إليه فقراء.
* وكان المسيح عليه السلام إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت لا أملك ما أرجو، ولا أستطيع دفع ما أحاذر، وأصبحت مرتهناً بعملي والخير كله في يد غيري فلا فقير أفقر مني.
* وقيل لعبد الرحمن الجبلي: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحمد اللّه إليك وإلى جميع خلقه، وأشكو نفسي إليك وإلى جميع خلقه.
* قيل للحسن: كيف أصبحت؟ قال: ما من انكسر مركبه في بحر بأعظم مصيبة مني. قيل: ولم؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعتي على وجل، لا أدري أمقبول عني؟ أم مضروب بها على وجهي؟
-[ وقيل للثوري كيف أصبحت قال : أشكو ربي إلى ربي، وأحمد ربي إلى ربي، وأفر من ربي إلى ربي ](1/231)


* وقيل لأويس القرني: كيف أصبحت؟ قال: كيف يصبح رجل إذا أصبح لا يدري أنه يمسي؟ وإذا أمسى لا يدري أنه يصبح؟
* وكان محمد بن المنكدر إذا رجع إلى أهله قال: ألا أخبركم بغنيمة باردة لا بحد السيف. لم يكلمني أحد ولم أكلمه.
* عاصم بن بهدلة: ما رأيت أبا وائل يقول: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ ولا كان ذلك منه جفاء.
* وقيل لحكيم: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت آبقاً آكل رزق ربي وأطيع عدوه.
* وقيل لأبي تميمة الجهني: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين لا أدري أيُّهما أعظم؟ ذنوب مستورة لا يعلم بها أحد، وثناء من الناس والله ما بلغها عملي.
* وقال ابن سيرين لرجل: كيف حالك؟ قال: ما حال من عليه خمسمائة درهم وهو معتل ؟ قال: فدخل ابن سيرين منزله وأخرج ألف درهم إليه. فقال: خمسمائة لدينك وخمسمائة لعيالك تنفقها. ثم قال: والله لا أسأل أحداً عن حاله حتى ألقى اللّه تعالى.
* الأعمش: أدركت الناس وإن أحدهم كان يلقى أخاه لم يلقه منذ شهر وما يزيد على كيف أصبحت؟ ولو سأله شطر ماله ما منعه. وإن أحدنا اليوم ليلقى أخاه ولم يلقه منذ يوم أو يومين فيسأله عن حاله وحال ولده ومن أهله ودابته حتى يسأله عن الدجاجة في بيته ، ولو سأله دانقاً لمنعه إياه.
* مُصَنِّفُه: كيف أصبح من هو يرصد نعمتين مسهلتين له من اللّه تعالى؟ وكيف حال من يضيعهما على نفسه بمعصيته؟ كيف أصبح من هو فجيع عمله، صريع أجله؟ وكيف أصبح من تدانى منه ما أحب أن يتناءا وتناءا ما أحب أن يتدانى؟(1/232)


باب في ذكر من حضره الموت
* قال اللّه تعالى: ?حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ?.. الآية [المؤمنون: 99،100].
* وقال اللّه تعالى: ? فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ?[الواقعة:83 ـ85].
(240) أخبرنا أبو علي عبد الرحمن بن فضالة، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسماعيل، أخبرنا مكحول، عن محمد بن عمر العلاف، عن أحمد بن حرب، عن عمرو بن عامر، عن سلمة بن صالح الأحمر، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود قال: دخلنا على رسول اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في بيت عائشة حين دنا له الفراق فنظر إلينا فدمعت عيناه ثم قال: [ مرحباً بكم ] حياكم الله، أواكم الله ، نصركم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأوصي اللّه بكم، إنّي لكم نذير مبين أن لا تعلوا على اللّه في عباده، وبلاده، وقد دنى الأجل فالمنقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وجنَّة المأوى، والكأس الأوفى، واقرأوا أنفسكم مني السلام ومن يدخل في دينكم بعدي [من إخوانكم] )) .
(241) أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا الحسن بن علي القاضي، حدَّثنا الأخوص المخزومي، حدَّثنا خالد بن يزيد، حدَّثنا أبو أمية الحبطي، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (( لو لم يعمل أحدكم إلا لساعة الموت كان حقيقاً بالعمل )).(1/233)


(242) وعن أبي موسى قال:قال رسول اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (( ما من بيت يكون إلا وملك الموت يقف على بابه كل يوم خمس مرات، فإذا وجد الإنسان قد فني رزقه، وانقطع أجله، ونفد أكله.ألقى عليه غم الموت، فمن أهل البيت الضاربة لوجهها، والناشرة شعرها، والباكية عليه.فيقول ملك الموت عليه السلام: فيمَ الفزع؟ ومم الجزع؟ ما أذهبت من رزق أحد منكم،ولا أفنيتُ لواحد منكم أجلا وإن لي فيكم لعودة ثم عودة حتى لا يبقى منكم أحد )).قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (( فوالذي نفسي بيده لو يرون مكانه، ويسمعون كلامه، لذهلوا عن ميتهم، ولبكوا على أنفسهم، حتى إذا حمل الميت على النعش ترقرق فوق النعش وهو ينادي يا أهلي، ويا ولدي، ويا جيراني، ويا زوجي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي إني جمعت المال من حِلِّهِ ومن غير حِلِّهِ فخلفته لغيري فالمهنأ لكم وعليَّ التبعة عند الدَّيَّان فاحذروا ما حل بي )).
(243) أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله، حدَّثنا يوسف بن يعقوب النيسابوري، حدَّثنا نصر بن علي، حدَّثنا عبد الله بن زبير الباهلي، عن ثابت، عن أنس، قال: لما وجد رسول اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة عليها السلام: وا كرب أبتاه. فقال النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: (( لا كرب على أبيك بعد اليوم، فقد نزل بأبيك ما ليس بتارك أحداً الموافاة يوم القيامة)).(1/234)


(244) حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا الحسن بن أحمد، أخبرنا محمد بن يونس، حدَّثنا غانم بن صالح السعدي، حدَّثنا مسلم بن خالد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليه السلام، عن جابر، قال: قلنا لأمير المؤمنين علي عليه السلام: حدَّثنا عن وفاة النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فدَمعت عيناه، ثم قال: لمَّا انصرف من الطائف وحج حجة الوداع أنزل اللّه عليه هذه الآية?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ?[الزمر:30]. فشق ذلك عليه فنزلت: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ?[الرحمن:27]. ثمَّ أنزل اللّه تعالى: ?إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ?[النصر:1]. فعلم النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنّه قد تقارب أجله، ونعيت نفسه، فتغيَّر لون رسول اللّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وخنقته العبرة فخرج إلى المسجد، وأمر بلالاً فنادى: الصلاة جامعة. وصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه. ثم قال: (( أوصيكم معاشر المسلمين بتقوى اللّه الذي فاز به الفائزون، وخسر بتركه الخاسرون، فإنه ?مَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ?[الطلاق:2،3].?وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَّه مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ?[الطلاق:4].?وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا?[الطلاق:5]، إنَّ اللّه كتب الموت على جميع خلقه، فلم يبق ملك مقرَّب، ولا نبيُّ مرسل، فأوصيكم عباد اللّه بالاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وأوصيكم بالصلوات الخمس، بإسباغ وضوئها، وتمام ركوعها وسجودها، وبالزّكاة من أموالكم، والأخذ بما أحل اللّه لكم في كتابه، وترك ما حرَّم عليكم، وكبائر الذنوب التي ليس عليها حجاب دون النار )).(1/235)

47 / 101
ع
En
A+
A-