* محمد بن الحسين قال: قال الحسن: ابن آدم أين ملوك الدنيا وأربابها الذين عمروا خرابها. وحفروا أنهارها، وغرسوا أشجارها، ومدَّنوا مدائنها ؟ هيهات!! هيهات!! فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، وهم بالماضين عما قليل لاحقون. ابن آدم أذكر كل يوم أتى عليك فيه سرور. هل تجد لشيء بعد انقضائه لذة؟ أو لست إذا حزنت فكأنك لم تفرح ساعة قط؟ وإذا خفت فكأنك لم تأمن ساعة قط؟ وإذا مرضت فكأنك لم تصح ساعة قط؟ فكأنما الدنيا وما فيها من سرور وحزن الساعة التي أنت فيها.. ابن آدم فرغ بدنك لعبادة ربك فإنه إنما جعل لك سمعاً لتسمع به مواعظه، وبصراً لتبصر به آياته، ولساناً لتتلوا به كتابه، وقلباً لتعرفه وتحفظ به وصيته، وإياك أن تصرف ذلك إلى معارضته، فتستوجب به نقمته. وأكثر ذكر الموقف فإنه يوم تزل فيه الأقدام، وتشخص فيه الأبصار، وتبلغ فيه القلوب الحناجر، وتبيضُّ وجوهٌ، وتسودُّ وجوه، وتبدو السرائر، وتوضع الموازين بالقسط، ما تنتظر ابن آدم يؤمئذ إلا عفو اللّه أو النار.
* وعن عبدالواحد بن زيد، عن الحسن، أنه قال: يا ابن آدم اذكر من ذهب من آبائك كيف كانوا؟ وأين هم اليوم؟ ولعلك لن تبلغ ما بلغوا، وإن بلغته كان عاقبته الموت، فتصير إلى ما صاروا إليه. يا ابن آدم أما تعلم أنك خرجت إلى الدنيا من ظهر أمم قد هلكوا، حتى صرت إلى زمانك الذي أنت فيه، ثم ذكر نحو الخبر الأول وزاد فيه: وإذا مرضت فكأنك لم تصح ساعة قط؟ وكيف عجبك بدار وثقتك بها، وبما فيها؟ وأنت تعلم أنك مزايلها، وظاعن عنها، ثم لا تدري إلى أي المنزلتين تصير بعدهما إلى كرامة دائمة ونعيم مقيم، أو هوان طويل وعذاب وبيل.(1/181)
* ميمون بن مهران قال: دخلت على عمر بن عبدالعزيز وقد ألقى ثوبه على وجهه، ثم كشفه، ثم ألقاه، ثم أني ظننت أنه قد رقد، فإذا هو يبكي من تحت الثوب، ثم قال: عبد نبطي بطين يتمنى على اللّه منازل الصالحين ثم قال: حُدِّثت أنه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان، وكان أحدهما صالحاً والآخر مقصراً مفرطاً فكتب المقصر إلى أخيه وعظم في كتابه أمر الملوك، فأجابه الصالح: أما ما عظمت من أمر الملوك فقد عظمت صغيراً، ورفعت حقيراً، وليس عظيماً من خلق من تراب وإلى التراب يعود وكيف يكون عظيماً من أوله نطفة؟ وقد رأيت قذر النطفة ومهانتها، ثم هو غدا جيفة يفر منه الأهل، ويقذره السباع والدواب. أم كيف يكون ملكاً من تصرعه الأمراض والأوجاع حتى تدعه خاشعاً ذليلاً؟ يتقلب فيها أسيراً مهاناً مضطراً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا يملك له أحد. أم كيف يكون ملكاً؟ من لا يأمن أن يُسلب عقله وسمعه ولسانه؟ حتى يعيش وبه من الزمانة والبلى ما قد رأى بمثله من الناس أم كيف يكون ملكاً من لا يأمن طعامه ولا شرابه ولا لذته ولا عيشه، ثم هو خائف لا يدري لعله في ألذّه عنده وأحبه إليه يكون ميتة زائلة وحتفاً قاضياً كما قال القائل:
من يأمن الدهر والأيام تطلبه يكون في الزبد أحياناً وفي العسل
أم كيف يكون ملكاً من لا يأمن جنوده ولا خدمه ورعيته وعدوه، أن يكون ذلك عليه قد كان يكون في مثله، فلا تجعل يا أخي الصغير عظيماً، والعبد رباً، والمملوك ملكاً، فإن الملك اللّه الأعلى الذي لا يبلى ولا يفنى.(1/182)
* ولبعضهم:
يابني النقص والغير .... وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطباع .... على القرب في الصور
سبقونا إلى الرحيـ .... ـل وإنا لبالأثر
من مضى عبرة لنا .... وغدا نحن معتبر
إن للموت أخذةً .... تسبق اللمح بالبصر
فكأني بكم غداً .... في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصـ .... ـور إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القبا .... ب عليكم ولا الحجر
حيث لا تبرزون فيـ .... ـه للهو ولا سمر
رحم اللّه مسلماً .... ذكر اللّه فادَّكر
رحم اللّه مسلماً .... خاف فاستشعر الحذر
* الأصمعي لم يعبر أحد عن تعب دار البلاء بعبارة صاحب الأبيات، بل سمعت فضلاً الرقاشي يعبر عنها نثراً بأحسن عبارة، وذلك أني رأيته واقفاً على مقبرة وهو يقول:
يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة التي نطق بالخراب فناؤها، وشيد في التراب بنائها، فمحلها مقترب، وساكنها مغترب، لا يتواصلون تواصل الإخوان، ولا يتزاورون تزاور الجيران، قد طحنهم بكلكله البلاء، وأكلهم الجندل والثرى، فعليهم منا الترحم والسلام، ومن ربهم المغفرة والإكرام.
* ولبعضهم:
تسر بما يفنى وتُشغل بالمنى .... كما غرّ باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة .... وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غِبَّه .... كذلك في الدنيا تعيش البهائم(1/183)
باب في التفويض إلى اللّه والتوكل عليه
* قال اللّه تعالى: ?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ? [الطلاق:3].
* وقال تعالى: ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ?[الفرقان:58].
(183) أخبرنا أبو علي عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل، حدَّثنا مكحول بن الفضل، حدَّثنا أبو صالح الغطفاني، أخبرنا أحمد بن حرب، عن كثير بن هشام، عن أبي المقدام، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يده )) .
(184) وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( لم يتوكل من استرقى واكتوى )).
(185) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أوشك له بالغنى، إما موتاً عاجلاً، أو غنى عاجلاً )) .
* ابن المبارك: مَنْ أخذ فلساً من حرام فليس بمتوكل.
* أبو حازم: كن لما لا ترجو أرجا منك لما ترجو فإن موسى عليه السلام خرج مقتبساً فنودي له بالنبوة.
* عن عمر بن الخطاب: ما الخمر صرفاً بأذهب بعقول الناس من الطمع وهو الفقر الحاضر.
* وسأل رجل ابن عيينة: أدخل البادية بالتوكل؟ قال: نعم. وسأله آخر: قال: لا.
* داود قال لابنه سليمان عليهما السلام: يابني إنما يستدل على تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد ناله، وحسن الصبر فيما قد فات.
* سليمان الخواص: الغني كل الغنى من أسكن اللّه قلبه من غناه يقيناً، ومن معرفته توكلاً، ومن عطائه رضاً، فذلك الغني حق الغنى، وإن أمسى طاوياً وأصبح معوزاً.
* الفضيل: والله لو أيست من الناس حتى لا ترجو أحداً إلا اللّه لأعطاك كل شيء تريد.(1/184)
(186 ) وعن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من توكل على اللّه وقنع كفي الطلب )) .
* مُصَنِّفُه: التوكل طلب من حلال، وإن ناله شكر، وإن أعوزه صبر، وبما قسم له قنع، والطمع من غير اللّه قطْعٌ، وإلى اللّه رفْعٌ.
* مُصَنِّفُه: التوكل الشكر في الرخاء، والصبر في البلاء، والقناعة بما أعطي.
* قال دانيال عليه السلام: إذا وثق به عبده لم يكله إلى غيره، وإذا ذكره لم ينسه.
* أبو مطيع: قيل: لحاتم الأصم: بلغني أنك تجوز المفاوز بالتوكل من غير زاد؟ قال حاتم: أجوزها بالزاد وإنما زادي فيها أربعة أشياء قال: ما هي؟ قال: أرى الدنيا بحذافيرها مملكة لله، وأرى الخلق كلهم عبيد الله، وأرى الأسباب والأرزاق كلها بيد الله، وأرى قضاء اللّه نافذاً في كل أرض. فقال أبو مطيع: نعم الزاد زادك فإنك تجوز به مفاوز الآخرة فكيف مفاوز الدنيا.
* وقرأ سليمان الخواص هذه الآية: ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ?[الفرقان:58]. فقال: ما ينبغي بعد هذه الآية أن يكل إلى أحد غير اللّه تعالى. ولو أن رجلاً توكل على اللّه بصدق النية لاحتاجت إليه الأمراء فمن دونهم وكيف يحتاج هو ومولاه الغني الحميد!!!
* مُصَنِّفُه: المتوكل من يكون في كل حاجاته إلى اللّه لَجَاهُ، ومنه وإليه رَجَاهُ.
* لبعضهم: لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله، ولا لرزقك خازناً غير الله، ولا لعملك شاهداً غير الله.
* وعن بعض القدماء: التوكل طمأنينة القلب على أن ما لله عليَّ أن لا أقدر على تأديتها إلا بمعونة منه، ومالي على اللّه فهو يقدر على إيتائه بلا معونة أحد.(1/185)