* الهيثم بن عدي قال: كان هشام بن عبدالملك جباراً فأمر أن يفرش له في مصنعة، من شجر وكرم وفنون النبات، ففرشت بأفخر الفرش، وأمر بإحضار ندمائه ومغنيه، وتقدم إلى الحُجاب بضبط الأبواب، فبينا هو جالس، إذ أقبل رجل جهير جميل، فشخص هشام ينظر إليه متعجباً من هيئته، حتى دنا منه، فألقى صحيفة، ثم ولى عليه ولم يُر، وإذا فيها بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد، وأمر بإحضار الحُجاب فسألهم عن الرجل؟ فقالوا:ما رأينا أحداً فصرف ندمائه وقال: تكدر علينا هذا اليوم فلم يمض عليه بعد ذلك إلا أياماً حتى مات.
* ولبعض الولاة: روى أن عبدالملك كان يطوف في قصر الكوفة، فإذا هو بباب مقفل، فأمر بفتحه فلم يرى فيه شيئاً، ورمق الحائط فإذا فيه هذه الأبيات:
إن الحديد وإن تطاول مكثه .... يوماً يصير إلى مقالة كانا
فاعمل على تؤد فإنك ميت .... وامهد لنفسك أيها الإنسانا
فما لبث بعد ذلك إلا أياماً ثم مات .
يقال: أنه كان لبشر بن عبدالملك والأصح أنه مات بالبصرة.
[وهذا ابن عياش يروي أن سليمان بن عبد الملك صعد المنبر يوم الجمعة وقد غلف لحيته بالغالية ونسيها قاطرة وقال أنا الملك الشاب فما جمع بعدها].
* ولما هزم مروان بن محمد آخر هزيمته (ببوصير) عبر واحد من جملة المسودة برجل جالس عند رجل من القتلى في الحومة يبكي عليه وقال: من هذا؟ قال: هذا مروان، فقطع رأسه، وحمله إلى إسماعيل بن عامر، فألقى الرأس ليهنأ ويحمل إلى السفاح بالكوفة فغفلوا عنه فجاء كلب وأكل لسانه.
* مُصَنِّفُه: وقد كان بالأمس ملكاً يسوس ثلاثين ألفاً فما ركونك إلى الدنيا وهذه مصارعها ونكالها، من الجند.
لما حضر ميتته مروان بن محمد أوان فلوله وهربه بعد وقعة الزاب متوجهاً إلى المغرب من حران فرمى بطرفه زخارف قصوره ومنتزهات مساكنه وتمثل:
وما الدنيا بباقية لحي .... ولا حي على الدنيا بباقي
وهو لنهشل من قصيدة طويلة يقول فيها:(1/171)


كأن الشيب والأحداث تجري .... إلى نعش الفتى فرسا سباق
فأما الشيب يدركه وإما .... يلاقي حتفه فيما يلاقي
وما الدنيا بباقية لحي .... ولا حي على الدنيا بباقي
* هذا ابناه عبد الله وعبيد الله، فقد كانا يباعان بأبخس الثمن في السودان، فاشتراهما رجل تاجر من اليمن بدراهم، صارت ممالكهم لأعدى عدوهم، ونعمهم وذراريهم نهباً لهم، فاتعظ بهم الحساد ورحمهم الأعداء.
* سنان بن يزيد الرهاوي قال: كنت مع مولاى جرير بن سهم التميمي، وهو يسير إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الشام فلما انتهى مولاي إلى مدائن كسرى وقف ينظر إلى بابها ثم تمثل:
جرت الرياح على محل ديارهم فكأنما كانوا على ميعاد
فأرى النعيم وكل ما يلهي بها يوم يصير إلى بلى ونفاد
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: أي شيء قلت؟ فأنشده. فقال: هلا قلت: ?كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ، كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ?[الدخان: 2528].
ثم قال: يا ابن أخي إن هؤلاء قوم كفروا النعم فحلت بهم النقم، فإياكم وكفر النعم، فتحل بكم النقم، وروي بلفظة أخرى: قال: لم يشكروا النعم فسلبوا دنياهم بالمعصية، فإياكم وكفر النعمة، لكي لا تحل بكم النقمة.
* وروي أن أبا جعفر انتبه مذعوراً، فقال: يا ربيع أتاني آت في منامي، فأنشأ يقول:
(كأني بهذا القصر)..إلخ الأبيات الثلاثة التي بعدها.
* ولبعضهم، المتنبي:
أين الجبابرة الأكاسرة الألى كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
* علي بن يقطين: ورأى منصور بن المهدي، في منامه شيخاً يقول:
كأني بهذا القصر قد باد أهله .... وأوحش منه ركنه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة .... وملك إلى قبر عليه جنادله
ولم يبق إلاَّ ذكره وحديثه .... ينادي بليل معولات حلائله
فلم يعش بعد ذلك إلا عشراً حتى هلك.(1/172)


ثم قال: ما أحسبني إلاَّ وقد اقترب أجلي، فاعتزم وتهيأ للحج، فلما أتى الكوفة نزل النخيلة، فلما أمر بالرحيل ودخل الناس، قال: ائتني بفحمة، وكتب على الحائط شعراً:
المرء يأمل أن يعيش .... وطول عيش ما يضره
تبلى بشاشته ويبقى .... بعد حلو العيش مره
وتضره الأيام حتى .... لا يرى شيئاً يسره
كم شامت بي إن هلكت .... وقائل لله دره
فلما كان بذات عرق، مرت به إبل من نعم عامر بن ربيعة.
فقال: يا ربيع، اجعل غداءنا من هذه الإبل، فأبتعت له فصيلاً منها، فأكل فأصابه الذربفمات منه.
* إسماعيل بن ذكوان: لبس سليمان بن عبدالملك ثياباً له حمراً رقاقاً، وكان جميلاً، صبيح المنظر، بهياً، وكانت له جارية حظية عنده، واقفة على رأسه، فكأن نفسه أعجبته.
فقال لها: كيف ترين هذه الهيئة؟
فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى .... غير أن لا بقاء للإنسان
أنت خلو من العيوب ومما .... يكره الناس غير أنك فاني
* وعن الربيع: لما مرض أبو جعفر مرضه الذي مات فيه، رأى كتاباً فقرأه، فإذا فيه شعراً:
أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت .... سنوك وأمر اللّه لابد واقع
أبا جعفر هل كاهن أو منجم .... لك اليوم من وقع المنية دافع
* ولما مات يحيى بن خالد وجدت رقعة تحت فراشه مكتوباً فيها:
وحق اللّه إن الظلم لؤم .... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي .... وعند اللّه تجتمع الخصوم
والبيتان الأولان لعلي بن أبي طالب عليه سلام اللّه كتبها إلى معاوية.
* ومعه رقعة أخرى فيها:
أتَضْلمَنِّي إذا ما كنت مقتدراً .... فالظلم مرتعه يدني من الندم
نامت جفونك والمظلوم مرتقب .... يدعو عليك وعين اللّه لم تنم
حلت مصيبة مظلوم بمظلمة .... إن الظلوم على تل من النقم
* إسماعيل بن محمد اليزيدي، عن أمة: لما حج هارون سنة ستة وثمانين ومائة للهجرة، صدر حتى أتى الحيرة، ثم الأنبار في السفن، فركب مع جعفر بن يحيى في الصيد، ثم رجع.(1/173)


فقال لجعفر: أمض فتفرح يومك فإني مع الحرم اليوم، فمضى مع بختيشوع الطبيب، وجلس يطرب وأبو زكار الأعمى يغنيه، ولطائف تحف الرشيد وخلعه تأتيه، ساعة بعد أخرى متقاطرة إلى أن أمسى، فدعا الرشيد بمسرور الخادم. فقال: اذهب إلى جعفر، وآتني برأسه ولا تراجعني، فأقتحم عليه مسرور بلا إذن، وأبو زكار يغنيه:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي .... عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً .... وإن بقيت تصير إلى نفاد
فلو فوديت من حَدَثِ المنايا .... فديتك بالطريف وبالتلاد
فقال جعفر لمسرور: يا أبا هاشم، سررتني بمجيئك، وأسأتني بدخولك عليَّ بلا إذن.
فقال له: جئتُ لأمر عظيم، أجب أمير المؤمنين.
قال: فوقع على رجليه يقبلهما.
فقال: دعني حتى أدخل فأوصي.
فقال: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما بدا لك فأعتق غلمانه، وأوصى ماله إلى من حضره، ثم نقله على دابة من دواب الجند، وأدخله قبة من قباب الحرم، فناشده جعفر أن يراجع فيه.وقال: قد حمل أمير المؤمنين النبيذ ونصف مالي لك.
فقال له: مسرور، إن أمير المؤمنين ما طعم اليوم ولا شرب فراجعه. فراجعه، فلما سمع الرشيد حسه، قال له: ما ورائك؟ فعرَّفه ما قاله له جعفر. فقال: والله لئن راجعتني لأقدمنك قبله. فرجع فقتله وجاء برأسه، حتى وضع بين يديه على ترس، وجاء بيديه في نطع، فوجه الرشيد في وقته ذلك إلى يحيى بن خالد والفضل فحبسهما، ثم أمر بجثة جعفر فصلبت عند جسر الأنبار، فأنشأ أبو العتاهية في ذلك:
من يأمن الدهر أو غوائله .... وجعفر تالف ويحياه
كذاك من يسخط المليك وير .... ضي العبد بالسخط يخزه اللّه
شتت بعد الجمع شملهم .... فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
أسلمه اللّه إذ عصاه إلى .... فظ غليظ فما ترضَّاه(1/174)


* أحمد بن عبيد، قال: لما سخط الرشيد على البرامكة، وقتل جعفر بن يحيى بن خالد، كتب إليه يحيى من الحبس: لأمير المؤمنين وإمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوبقته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، ونزل به الحدثان، وزال به الزمان، فحل الضيق بعد السعة، وعالج البؤس بعد الدعة، ولبس البلاء بعد الرخاء، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل السهر بعد الهجود، فساعته شهر، وليلته دهر، قد عاين الموت، وشارف على الفوت، جزعاً يا أمير المؤمنين من مؤاخذتك، وأسفاً على سلب من قربك، لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال في يدي عارية منك، والعواري لابد مردودة، فأما ما أقتصصت به من ولدي جعفر، فإنما كان عبداً من عبيدك، أخذته بذنبه، وعاقبته بجرمه، ولا يخاف عليك الخطاب في أمره، ولا تكون جاوزت ما ينبغي فيه، وما من رضاك خلف، وما من سخطك عوض، وقد كبر سني، وضعفت قوتي، فارحم شيبتي، فمنك الإقالة، ومني العثرة، لست أعتذر، إليك بشيء إلا بما تحب الإقرار به، حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك في أمري، وبراءة ساحتي مما لا يتعاظمك ما مننت به عليَّ، من رأفتك ورحمتك، والسلام.
* فأجابه هارون: ليس لكتابك يا أبا علي جواب، إنما مثلك كمثل?قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّة ? .. الآية[النحل:112]. فأعاد عليه:(1/175)

35 / 101
ع
En
A+
A-