ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
والشعر لأمية بن الصلت، قاله: عند وفاته. وقبله:
كل عيش وإن تطاول دهراً صائرٌ مرة إلى أن يزولا
* مُصَنِّفُه: هذا مع دهائه وثقابة رأيه، لما رأى بأس اللّه تعالى، رأى طاعته قصوراً في طاعة نفسه، وعلم أن الأمل قد خذله، والأجل قد حصده، والتدارك قد فاته، فلم يجده الأسف، وعرفه الكمد لإيثاره أم الغرور. وبلغني: أنه لما هَمَّ بالإرتحال إلى معاوية.
قال لغلامه وردان: شد الرحل. ثم قال: حطّه. ثم أمر بأن يُشَدَّ، ثم أمره بأن يحطُّه ثلاثاً. فقال غلامه وردان: أتأذن لي بالكلام؟ فقال: تكلم. فقال: أما إنك وقفت بين أمرين: تارة تحدث نفسك بالخروج إلى معاوية، وتارة بالخروج إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإن أردت الدنيا: فعليك بمعاوية، وإن أردت الآخرة: فعليك بأمير المؤمنين علي عليه السلام.
فقال: شُدَّ الرحل إلى معاوية، فَغَلَب عقله هواه، حتى خاض به في مهواة.
أخبرنا أبو الحسن، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو جعفر بن بهلول، حدثني: إسحاق بن بهلول، حدَّثنا أبي، عن الهيثم، عن الشعبي، قال: أرسل إِلَيَّ عبدالملك بن مروان وهو شاك، فدخلت عليه.
فقلت كيف أصبح أمير المؤمنين؟
قال: أصبحت كما قال ابن قميئة:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة .... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بناتالدهر من حيث لا أرى .... فكيف بمن يرمي وليس برامي
فلو أنني أرمى بسهم رأيته .... ولكنني أرمى بغير سهام
إذا ما رآني الناس قالوا ألم يكن .... حديثاً شديد البطش غير كهام
قال الشعبي: فقلت لا يا أمير المؤمنين: ولكنك كما قال لبيد:
راحت تشكي إلي النفس مجهشة .... وقد حملتك سبعاً بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثاً تبلغي أملاً .... وفي الثلاث وفاءٌ للثمانينا
فعاش والله حتى بلغ تسعين سنة، فقال:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائياً
فعاش حتى بلغ مائة وعشرين سنة، فقال:(1/166)
أليس في مائة قد عاشها رجل وفي تكامل عشر بعدها عبر
فعاش حتى بلغ مائة وثلاثين سنة، فقال:
وعُمِّرْتُ حيناً بعد مجرى وداحس فلو كان للنفس اللجوج خلود
فعاش حتى بلغ أربعين ومائة، فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
فقال عبدالملك بن مروان: ما بي من بأس، اقعد يا شعبي ما بينك وبين الليل، فحدثني.
قال: فحادثته حتى أمسيت ثم فارقته، فمات والله جوف الليل.
وأخبرني أبو الحسن، أخبرنا أبو أحمد، حدَّثنا علي بن مهران، حدَّثنا أحمد بن الحسين بن مدرك، حدَّثنا سليمان بن عبد الرحمن، حدَّثنا أبو خليد القاري، عن سعيد بن بشير، عن قتادة: أن عبدالملك بن مروان كتب إلى الحجاج: أن أجمع إِلَيَّ بأجمع رجل عندك، فبعث إليه: بالشعبي، فدخل عليه.
قال الشعبي: فدعى عبدالملك بطعامه فأكلنا وأكل منه فأغصه، فأمسك حتى ذهب غصصه، ثم أنشأ يقول:
كأني وقد جاوزت سبعين حجة خلعت بها عني عذار لجامي
فسرد الخبر الأول إلى قوله: فعاش عشرين ومائة سنة، فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
قال: فطمع عبدالملك أن يعيش ما عاش لبيد.
قال: حاجتك يا عامر؟
قال: حاجتي أن تردني إلى أهلي.
قال: ففعل ذلك.
*وبلغ زر بن حبيشما أنشد الشعبي عبدالملك بن مروان،فكتب إليه: يا أمير المؤمنين:
إذا الرجال ولدت أولادها وجعلت أوصابها تعتادها
واضطربت من كبر أجسادها تلك زروع قد دنى حصادها
فلما قرأه عبدالملك بن مروان.
قال: صدقنا والله زر بن حبيش، وغرنا عامر الشعبي.
* مُصَنِّفُه: يتدلَّون إلى الملوك بما يريحهم ويسرهم في الحال، وإن أعقبهم عرة الوبال، ابتغاء حطهم لا حظهم، وهل الدهر إلاَّ كما قال الشاعر:
وما الدهر إلا حالتان كما ترى .... رزية ملك أو فراق حبيب(1/167)
* وبلغني، عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام: أنه كان يُحَدِّثُ بأن أباه عبد الرحمن تذكر بأن حسان أباه وجدوده الثلاثة عاشوا لمائة وأربع سنين، كل واحد منهم مائة وأربع سنين، وكان يشرأبُ لمائة وأربع سنين، ويثني يديه على مثلها، فأخترم والله وهو ابن ثمان وأربعين سنة.
* وبلغني: أن معاوية لما أشتدت العلة به. قال: ما بقي شيء استلذه إلاَّ رجل: قروي، بدوي، يحدثني.
* مُصَنِّفُه: يتعلل به عن تعريك المنية إياه، فما نفعه وأغناه، كما قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
* وبلغني: أن عبد الله بن عباس دخل على معاوية أوان علته هذه، فقال:
وتجلُّدي للشامتين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
فأجابه ابن عباس:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
وكلاهما من قصيدة واحدة.
* وبلغني: أن المأمون لما احتضرت وفاته، رفع يديه إلى السماء، يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
* الهيثم بن عدي، قال: أَذِنَ عبدالملك بن مروان يوماً للناس أذناً حفلاً عاماً فدخل شيخ رَثُّ الهيئة، فلم يأبه له الحرس، حتى مثل بين يدي عبدالملك في يده صحيفة فألقاها بين يديه وأملس فلم يوجد، وإذا فيها:(1/168)
بسم اللّه الرحمن الرحيم، يا أيها الإنسان، إن اللّه قد جعلك حكماً بينه وبين عباده، ?فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه? إلى قوله تعالى:?يوم الحساب?[ص:26] ?أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[المطففين:4،5].?ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُود?[هود:103، 104]. إن الذي أنت فيه لو بقي لغيرك ما وصل إليك ?فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ? [النمل:52].
قال: فتغير وجه عبدالملك بن مروان، ودخل دار حرمه، ولم تزل الكآبة ترى على وجهه، وعاش بعد ذلك أياماً.
* ابن قبيصة ابن ذؤيب، عن أبيه، قال: كنا نسمع نداء عبدالملك من وراء الحجر: يا أهل النعم لا تستقلوا شيئاً من النعم مع العافية.
* إبراهيم بن السفيان: نظر عبدالملك إلى قَصَّارٍ في مرضه الذي توفي فيه، وهو في دار عاتكة بنت يزيد أم يزيد بن عبدالملك قاتل عمر بن عبدالعزيز، قال: ياليتني كنت قصَّاراً.
* وبلغني: أنه كان يقول في مرضه: يا أهل العافية، لو علمتم موقع العافية لما سألتم اللّه شيئاً غير العافية.
* وقال إبراهيم: قد كان حماه الطبيب الماء وأمتنع منه، فدخل عليه الوليد يعوده فتمثل لما نظر إليهم:
ومستخبر عنا يريد بنا الردى ومستخبرات والعيون سواجم
ثم قال: اسقوني شربة من ماء وإن كان نفسي فيها فشرب فمات.
* وقرأت أن أبا الوليد لما أنشد البيت جمع أولاده وأشار بخاتمه إلى الوليد فبكى.(1/169)
فقال له: كأني بك إذا أنا مت تعصر عينيك كالأمة الوكعى، ضعني في حفرتي، وخلني وشأني، وادع الناس إلى البيعة فمن فعل برأسه هكذا فاعمل بسيفك هكذا، وإياكم والتعرض للحجاج بن يوسف، فإنه بنى لكم المنابر وكفاكم القناطر، وقد كان الحجاج قتل سبعين ألف نفس، حتى خضع لهم الأمر.
وحكي عنه: أنه قتل ثلاثين ألف نفس منهم بلا جناية، ولم يكن توقي الحجاج من أحد منهم وحذره كحذره من عمر بن عبدالعزيز لما كان يعلم أنه لا يحمله إن انتهى الأمر إليه، وكان عمر يقول في الحجاج: لو كايدنا به مردة الشياطين لغلبناهم.
* ولما أمر الحجاج بقتل سعيد بن جبير ولىَّ عليه سعيد ضاحكاً. فقال الحجاج: ردُّوه. فقال له: يا شقي، يا أحمق أتضحك وقد أمرت بقتلك؟ قال: أتعجب من حلم اللّه معك واغترارك بتفضل المهلة، وجسارتك عليه بالعدوان فما أظن أن الله يمكنك بعدي من قتل ولي من أوليائه.
* قال ابن أبي الحليفة: قال سعيد لما ضربت عنقه: أشهد أن لا إله إلا اللّه، الأولى أجهر، والثانية أخفض، فوقعت الآكلة بعد ذلك في قلب الحجاج فمات ولم يمكنه اللّه تعالى بعده من قتل أحد من الناس، فخرجت امرأته منكشفة عن الستر تنشد:
اليوم يرحمنا من كان يفزعنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعاً
* وبلغني: أن المعتمد لما قتل أباه إعتل بعده لستة أشهر فلما احتضر كانت والدته جارية تركية تبكي عليه فمد ببصره إليها فقال: يا أمي عاجلنا فعوجلنا.
* أحمد بن معاوية، عن زيد العمي قال: شهدت وفاة هشام بن عبدالملك فسمعت ابن عبدالأعلى يتمثل:
فما سالم عما قليل بسالم .... ولو كثرت حراسه وكتائبه
ومن يك ذا باب شديد وحاجب .... فعما قليل يهجر الباب حاجبه
ويصبح في لحد من الأرض مقصيا .... رهينة باب لم تستر جوانبه
وما كان إلا الدفن حتى تحولت .... إلى غيره حراسه ومواكبه
وأصبح مسروراً به كل كاشح .... واسلمه أحبابه وحبائبه
فنفسك فاكسبها السعادة جاهداً .... فكل امرئ رهن بما هو كاسبه(1/170)