* ولبعضهم:
أين الملوك التي عن حظها غفلت .... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
تلك المدائن في الآفاق خاوية .... عادت خراباً وذاق الموت بانيها
* عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: أين ملوك الدنيا الذين عمروا خرابها! وحفروا أنهارها! وغرسوا أشجارها! والله فارقوها وهم كارهون، وورثها قوم آخرون، وهم عما قليل بهم لاحقون.
* بكر بن عبدالخالق، عن مالك بن دينار، قال: مررت يوماً فانتهيت إلى دار في بعض سكك البصرة، فإذا أنا بدار عليها أثر الجص، وجَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِدُفٍ لهن، ويقلن:
ألا يا دار لا يدخلك حزن ولا يعبث بساكنك الزمان
فمررت بعد ذلك بمدة وقد تغيرت الحال، فقمت على باب الدار مفكراً.
فقالت: مالك يا عبد الله؟
فقلت: مررت في وقت كذا فسمعت كذا وكذا.
فقالت لي: قد والله دخلها الحزن، وذهب بأهلها الزمان، وما بقي فيها أحد من أهلها.
* محمد بن الحسن بن عبيدة، قال: قرأت على قصر في أعالي الحجاز قد تخرب وباد، وباد أهله:
تالله ربك كم بيت مررت به .... قد كان يعمر باللذات والطرب
طارت عقاب المنايا في جوانبه .... فصار بعدهم للويل والحرب
* ولبعضهم:
كأنك لم يصلك ولم تصله .... خليل حين يصرمك الخليل
كأنك لم تكن في الدهر يوماً .... إذا ما حان في القبر المقيل
* ومر الحسن بقصر أوس، فقال: لمن هذه الدار؟
قالوا: لأوس.
قال: يود أوس لو أنه له في الآخرة رغيفاً.(1/156)


* مُصَنِّفُه: عجباً لحال ابن آدم، تقرع أذنه بعبر المثلات، ووقائع من مضى، وتناجيه ألسنة الزمن، وتنذره بالأختلاف الخلقتان، وتنقل إليه مكائد الكرور والأيام، ويعاين آثار بسطتهم وبهاء ملكهم، وسعتهم وبسط عزهم، ونخوتهم وتكاثر عددهم وعددهم، كيف خذلتهم الآمال، وفضحتهم الآجال، وخدعتهم الأمنية، حتى حصدتهم المنية، فأصبحوا في ظلم القبور مأسورين، وعلى ما سبق منهم متحسرين، بعدما كانوا ملوكاً مسوَّدين، وعلى الدنيا مقتدرين، كيف خلت عن الساكن مساكنهم، وبليت بين أطباق الثرى محاسنهم، فكأنهم لم يخلقوا، وفي الدنيا لم يرزقوا، ?هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا?[مريم:98]. الآن الآن، حذرك حذرك، قبل أن يجزم قضاؤك، ويبرم جزاؤك، فيحال بينك وبين النجاة، فلا تملك رد المهواة فإن هجرتها ممدوحاً، وإلا هجرتك مذموما. والسلام.
* لأبي العتاهية:
جمعوا لدنياهم فما أكلوا .... وبنوا مساكنهم فما سكنوا
فكأنهم كانوا بها ظعنا .... لما استراحوا ساعة ظعنوا
* وأنشد أبو الهيثم بن مروان، الزاهد:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم .... غلب الرجال فلم تمنعهم القلل
وأستنزلوا بعد عز من معاقلهم .... إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعدما دفنوا .... أين الأَسِرَّةُ والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة .... من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عَنْهُم حين ساءلهم .... تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
[قد طال ما أكلوا دهراً وما نعموا .... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا]
* وزاد بعضهم فيها بأبيات منها:
وطالما كنزوا الأموال وادخروا .... فخلفوها على الأعداء وارتحلوا
وطالما شيدوا دوراً لتحصنهم .... ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
أضحت مساكنهم وحشاً معطلة .... وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا(1/157)


* لأبي العتاهية:
تسمَّع من الأيام إن كنت سامعاً .... فإنك منها بين ناهٍ وآمرِ
وكم ملك قد رُكِّمَ التربُ فوقه .... وعهدي به في الأمس فوق المنابر
إذا كنت في الدنيا بصيراً فإنما .... بلاغك منها مثل زاد المسافر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه .... فما فاته منها فليس بضائر
* مالك بن دينار، قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام، إذا مر بدار قد مات أهلها، نادى: يا ويحاً لأربابك الذين بنوا ربوتك كيف لم يعتبروا بإخوانهم الماضين.
* وعن وهب بن منبه، قال: قال المسيح عليه السلام: يا دار، تخربين ويفنى سكانك، ويانفس اعملي ترزقي، ويا جسد انصب تسترح.
* سفيان بن عيينة، قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: ما قال الناس لقوم قط طوبى لهم، إلاَّ وقد خبأ لهم الدهر يوم سوء.
* شعبة، وسفيان، وأبو عوانة، عن عبدالملك بن عمير، قال: رأيت رأس الحسين بن علي عليه السلام بين يدي عبيدالله بن زياد في قصر الكوفة، ورأيت رأس عبيدالله بن زياد بين يدي المختار في قصر الكوفة، ورأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير، ورأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدي عبدالملك بن مروان.
قال سفيان: فقلت له: كم كان بين أول الرؤوس وآخرها؟
فقال: اثنا عشر سنة.(1/158)


باب فيمن رفض الملك وساح
* ترك المُلْكَ النعمانُ الأكبر، وساح في الأرض، وتنصر مترهباً، فلم يعرف له خبرها.
* والنعمان الأصغر: قتله كسرى - ألقاه تحت أرجل الفيلة - وهو النعمان بن المنذر بن ماء السماء، ولي مكانه إياس بن قبيصة الطائي، وفي ولايته بعث اللّه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
* وبَنَتْ هند بنت النعمان بن المنذر ديراً بالكوفة، يقال له: دير هند. بعدما قُتِلَ أبوها، وكذلك الحرقة ترهبت في بعض الديارات.
* وروى هشام بن الكلبي: لما فتح خالد بن الوليد عين التمرة سأل عن الحرقة، وهند، ابنتي النعمان بن المنذر.
فقيل له: أما هند فتوفيت.
وأما الحرقة ففي بعض الصوامع مترهبة، فأتاها، وسلم عليها، وسألها عن حالها؟
فقالت: أُجْمِل أم أُفَسِّر؟
فقال: بل تجملين.
قالت: لقد طلعت الشمس، وما شيء بدا حول الخورنق إلاَّ تحت أيدينا، ثم وجبت وقد رحمنا من وارته، وما من بيت دخلته حبرة إلاَّ دخلته عبرة، ولا بيت دخلته عبرة إلاَّ دخلته حبرة، فأنشأت:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا .... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأُفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها .... تقلب تارات بنا وتصرف
* وروى حيان بن أبان، من أهل بعلبك: أن حرقة أتت سعداً أوان قدومه إلى القادسية أميراً، طالبة نواله في جوار لها كلهن على زيها.
فقال سعد: أيتكن الحرقة ؟
قلن: هذه.
فقال سعد: أنت الحرقة؟
قالت: نعم، فما تكرارك باستفهامي، إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم من بعد حالهم حالاً، إِنَّا كنا ملوك هذا قبلك، يجبى إلينا خراجه، ويطيعنا أهله، مدى المدة، وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وتولى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتت ملأنا، كذلك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم عنوا بحبرة إلاَّ والدهر معقبهم عبرة، [ولا أسعفهم بفرحة إلاَّ أعقبهم بترحة ] ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا .. الخ(1/159)


فقال سعد: قاتل اللّه عدي بن زيد، كأنه ينظر إليها حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها .... لا تبيتن قد أمنت الشرورا
قد يبيت الفتى معافى فيردى .... ولقد كان آمنا مسرورا
فأحسن سعد جائزتها، فلما أرادت فراقه. قالت: أحييك تحية أملاكنا بعضهم بعضاً لا جعل اللّه لك إلى لئيم حاجة، ولا نزع من عبد صالح نعمة إلاَّ جعلك سبباً لردها، ثم خرجت فتلقتها نساء المدينة، وقلن لها: ما فعل لك الأمير فقالت:
حاط لي ذمتي وأكرم حملي إنما يكرم الكريم الكريما
* وساح أيضاً امرؤ القيس اللخمي وهو: بحرق الأول، أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد، أخبرنا أبو بكر بن دريد، حدَّثنا عمي، حدَّثنا حاتم بن قبيصة، عن ابن الكلبي، عن أبي مسكين، قال: امرؤ القيس: وهو بحرق الأول بن عمرو ،وامرؤ القيس وهو الذي تعبد وساح. وكان هذا الملك ذا جمال ومنطق، وكان ذا مصاحبة للذات، عكوفاً على اللهو، وكان مع ذلك يرجع إلى عقل أصيل، ورأي ثاقب، فخرج ذات يوم، فإذا هو برجل كأنه مقاد، عليه أطمار، قد جمع عظاماً من عظام الموتى، وهي بين يديه يقلبها.
فقال له الملك: ما قصتك أيها الرجل؟ وما بلغ بك ما أرى من سوء الحال؟ ونشوف الجسم ؟ وشحوب اللون، والإنفراد في هذه الفلاة؟
فقال الرجل: أما [ما] ترى من تغير حالي، ونحول جسمي، وشحوبي، فإني على جناح سفر، وبي موكلان يزعجاني، يحدوان بي إلى منزل ضنك المحل، مظلم القعر، كريه المقر، ثم يسلماني إلى مصاحبة البلى، ومجاورة الهلكات بين أطباق الثرى، فلو تركت بذلك مع جفاءه، وضيقه، ووحشته، وتقطع أعضائي فيه، وأرتعاء أخراش الأرض في لحمي، وعصبي، وعظامي، حتى أعود رفاتاً، وتصير أعظمي رماماً، ولو كان للبلاء انقضاء، وللشقاء نهاية لنسيت، ولكن أرفع بعد ذلك إلى صحبة المحشر، وأرد أهوال مواقف الجرائم، لا أدري إلى أي دارين يؤمر بي، فأي عيش يلتذ من تكون هذه صورته ؟(1/160)

32 / 101
ع
En
A+
A-