ومن ليلتها أعلنت الحرب على الظلام والإظلام ، وأشعلت شمعة ، على ضوئها قمت بتجميع المراجع والمصادر المتوفرة بحوزتي. وبدأت في تجريدها، وبدأت في مشروعي هارباً من الواقع الأليم إلى ظلال وأفياء الفكر الوارفة، ودخلت في عالم ملائكي سابحاً في أجواء عابقة سامية، متوغلا إلى أعماق تاريخ الأمة الإسلامية المشرق، زائراً عظماء الفكر ، والأدب ، والعلم ، والتاريخ ، والزهد ، والورع، والجهاد، ودعاة الإصلاح ، والحرية، والمساواة والعدل ، والسلام، ووجدت بغيتي، وحصلت على الملجأ والملاذ الذي ملأ نفسي هدوءاً وسكنية وطمأنينة وعزيمة وقوة وثباتاً. هرب معظم سكان الحارة، ولم يبق ما يتجاوز عدد الأصابع من الأسر، وخلت الدور، واقفرت وأوحشت، زاد من وحشتها ظلمات الليل المتراكمة. وكلما انفجر صاروخ في العاصمة أو ضواحيها ازدادت حاراتها ومنها حارتنا إقفاراً وتسارع نزوح الناس عنها.
ولا أنسى ذات ليلة ، وأنا منهمك في ترجمة الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، أبحث عن مصنفاته، على ضوء شمعتين إذ بَرَق ضوءٌ خاطفٌ أعقبه صوت انفجار عنيف هزَّ أرجاء المنزل، وانفتحت بفعله نوافذ الغرف، ومنها غرفة المكتبة التي كنت فيها، وكان الصاروخ الذي سقط غرب مصنع الغزل والنسيج ، انطفأت الشمعتان، وخيم ظلام رهيب ، كنا نظن الانفجار في نفس الشارع الذي نقطنه، وعلت صرخات طفلتي التي هرعت وبعدها إخوتها وأمهم ثم جدتهم إلى غرفتي في فزع وحيرة وتساؤل. حلَّقَ بي الجميع وأنا أبذل الجهود لتهدئتهم وتطمينهم بلا جدوى، وصرخت طفلتي وشاركها بعض اخوتها وأمهم مطالبين بضرورة السفر إلى مسقط الرأس شهارة، ومغادرة العاصمة أسوة بمن سبق من الجيران النازحين، ولم تفلح جهودي ووعودي، ولم يقتنعوا إلا بعد أن أخبرتهم أن إيجار الفرد الواحد في رحلتنا إلى البلاد يصل إلى ألف ريال يومها وأن المرتب لا يفي بإيجار سفر البعض من الأسرة لا كلها.(1/26)
... ومضت الأيام، والحرب تدور رحاها، والناس في قلق وتوجس رهيب، يتابعون أخبارها من إذاعات وتلفزيونات العالم، وأنا في شغل بعالمي الخاص لا أكاد أسمع إلا نشرة واحدة في اليوم، والرغبة في الانجاز بأقصى سرعة تسوقني سوقاً عنيفاً، وما هي إلا ثلاثة شهور ـ خمدت خلالها أصوات المدافع وحسمت الحرب ـ حتى وصلت إلى خاتمة حرف الياء، وسودَّت أكثر من ألف وخمسمائة كرت من كروت البحث البيضاء الصغيرة التي كلفني شراءها ما أرهق ميزانيتي، والتي عمدت إليها بغية الترتيب، وتلافي الحذف والتغيير والشخبطة في المسوَّدة، ثم نقلت التراجم من الكروت إلى دفاتر يومية حسابات وجدتها أرخص ما في المكتبات، فإذا الكتاب في أربعة مجلدات، كتب الأول والثاني منها ولدي عبدالله عبدالسلام بخطه الحسن الجميل ، وتفرغت أنا بعده لتبييض المجلد الثالث والرابع منها، ليستغرق العمل ثلاثة شهور أخرى، وتكتمل المسودات الأولى وتتوالى الإضافات إليها بعد ذلك.
ولا أنسى في هذا الصدد جهود أخي وصديقي العزيز (نبيل محمد محمد العزي المتوكل) الذي كان يلازمني في أغلب أيام التأليف، ويساعدني في تقليب المراجع، وأحياناً في الكتابة لما أمليه عليه في كروت البحث بلا تبرم ولا كلل ولا ملل.
هدف وأسلوب التأليف لهذا الكتاب:
ـ لقد ذكرت سابقاً أنَّ الغرض من تأليف هذا الكتاب: هو جمع تراجم موجزة شاملة للمؤلفين المنتمين إلى الزيدية من عصر الإمام زيد بن علي ـ عليه السلام ـ إلى عصرنا شاملة للزيدية الأول في العراقين والجيل والديلم وطبرستان واليمن والجزيرة العربية، تراجم موجزة مختصرة تتضمن أهم المعلومات عن حياتهم، ثم فهرس شامل لكل مؤلفاتهم، وإثباتها مرتبة على الحروف الأبجدية لكل مؤلف على حدة، مع المتابعة قدر الإمكان لأماكن وجود المخطوط منها في المكتبات العامة والخاصة ، وتاريخ طباعة المطبوع، وما لم أجده مخطوطاً ولا مطبوعاً اذكر المصادر التي ذكرته.(1/27)
وقد أثبت ما أمكن من المصادر التي ترجمت للمؤلف، أو سردت شيئا من كتبه عقب كل ترجمة لمن يريد البحث والتوسع، كل ذلك بهدف إيجاد قاموس ميسَّر شامل للمؤلفين والْمُؤَلَّفَاتِ المهددة بالخطر وخدمة الباحثين والمحققين والمهتمين بالتراث الإسلامي.
لقد حاولت جهدي، وأنا القليل البضاعة، القصير الباع، أن اتبع في الكتاب اسلوباً واحدا في سرد التراجم والمؤلفات واثبات المصادر يمكن إيجازه في الآتي:
أولا: فيما يتعلق بتراجم المؤلفين:
حرصت على التأكد أولاً من انتماء المترجم إلى المدرسة الزيدية، إمِّا بذكر هذا الإنتماء من مصادر الزيدية، أو من المصادر الأخرى، أو من مؤلفاته هو، ومن التزامه واتباعه للمبادىء والأسس والأصول التي تعتنقها الزيدية والتي تطلق كلمة (زيدي) على معتقدها، أو من اتباعه لأحد أئمة أهل البيت الزيدية، وخروجه معه للجهاد أو مبايعته له، أو من نشأته في المدرسة الزيدية ، وتلقيه العلم على شيوخها ، وتأثره بأفكارها ومعتقداتها.
يستوي في ذلك اتباع المدارس المتعددة داخل المذهب حتى أولئك النفر الذين تأثروا بالحشوية ـ حسب تعبير علماء الزيدية ـ أي المتأثرين بكتب الحديث الواردة من غير طرق آل البيت وشيعتهم، والمعتمدين كتب خصومهم مع التجاهل لكتب الحديث المعتمدة عند أهل البيت، والتنكر لها، والهجوم عليها أحياناً تحت ستار الرجوع إلى الكتاب والسنة الصحيحة!! وهم الذين تناسوا مبادئ أساسية هامَّة جداً،وقواعد رئيسية اشترطها أئمة أهل البيت وشيعتهم لقبول الأخبار منها مثلاً:(1/28)
أ- تقديم الأحاديث الواردة عن طريق آل البيت وشيعتهم على غيرها، استناداً إلى مكانتهم وكونهم المنبع الأصيل القريب من رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإلى صدقهم في الرواية، والنقل، وما ورد عنهم، وفيهم، من آيات الكتاب العزيز التي تحث على مودتهم، واتباعهم، وموالاتهم، كآية (التطهير)، وآية (المودة)، و(المباهلة)، و(الموالاة) وعشرات الآيات التي نزلت فيهم. انظرها في (شواهد التنزيل) للحاكم الحسكاني وفي (تفسير فرات الكوفي)، و(تفسير الحسين بن الحكم الحبري)، وفي العشرات من كتب التفسير وأسباب النزول.
وما ورد فيهم من أحاديث صحيحة متواترة، اتفق على نقلها الرواة والمحدثون، ودوَّنتها مجاميع الحديث المعتمدة عند شتى الطوائف والفرق الإسلامية مثل حديث (الثقلين)، و(السفينة)، و(النجوم)، وغيرها.
ب ـ إعتبارهم قول أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ حجة، وتقديمه على أقوال غيره من الصحابة إن تعارض معها، إن صحت الرواية عنه استناداً إلى حديث (الغدير)، و(المنزلة)، ومئات الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في فضله، وكذلك إلى ما نزل فيه من القرآن، وإلى أسبقيته، وإيمانه، وجهاده، وصدقه، وزهده، وورعه.
ج ـ إجماع أهل البيت حجة، فإذا أجمع أئمة وعلماء أهل البيت على مسألة ما، في عصر ما قدمت على ما يخالفها نظراً لما ورد فيهم وفي مجموعهم من الآيات والأحاديث والأخبار، ومنها (حديث الثقلين) الذي يؤكد اقترانهم بالقرآن والسنة النبوية.(1/29)
د ـ من قواعدهم الأساسية في قبول الحديث والعمل به أن يكون الحديث متلَّقى بالقبول عند مختلف طوائف الأمة (شيعة وسنة)، أو متواتراً ـ أي نقله العدد الذين يستحيل تواطئهم على الكذب في عصر ما إلى عدد مماثل في العصر الذي يليه إلى أن يصل إلى عصرنا أو عصر التدوين ـ وما لم يكن كذلك، وكان الحديث آحادياً غير متواتر أو متلقى بالقبول أو صححه آل محمد وشيعتهم، أوله أصل وشاهد في كتاب اللّه فلا يؤمن أن يكون مكذوباً على رسول اللّه، وبالتالي فلابد من عرضه على كتاب الله.
هـ ـ والعرض على كتاب اللّه قاعدة هامَّة اعتمدها المحدثون من آل البيت وشيعتهم استناداً إلى حديث العرض الذي رواه الإمام زيد بن علي ـ عليه السلام ـ في (الرسالة المدنيه)، والإمام الهادي يحيى بن الحسين في (الأحكام)، والطبراني في (الكبير)، وغيرهم ولفظه: ((سَيُكْذَبُ عليَّ كما كُذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فهو مني وأنا قلته، وما خالفه فليس مني ولم أقله)). وهو الحديث الذي ضعَّفَه وشكَّكَ فيه من يُسَمَّون بأهل الحديث والسُّنه نظرياً، واضطروا إلى العمل به في عدَّة مسائل وتطبيقه عملياً.
كما استند المحدِّثون من آل البيت وشيعتهم في العرض على أدلة أخرى عقلية ونقلية توجب عرض الأحاديث على القرآن الكريم، لأن القرآن قطعيُّ الثبوت، قطعي الدلالة، بينما السُّنة في الغالب ظنَّية الثبوت، كما أن ترك العرض إعراض عن القرآن..الخ، وقد ترتب على هذه القاعدة وإعمالها قلة الأحاديث الموضوعة المكذوبة في الكتب المعتمدة عند أهل البيت وشيعتهم، المراعى فيها تطبيق العرض على القرآن.(1/30)