الكتاب :منسك الحج والعمرة للإمام زيد (ع)
المؤلف : الإمام زيد (ع)

مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[البقرة: 197-203].(1/1)


والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، القائل: ((من أراد دنيا أو آخره فليؤم هذا البيت، ما أتاه عبد فسأل دنيا إلا أعطاه الله منها، أو سأله آخرة إلا ذخر له منها، أيها الناس عليكم بالحج والعمرة، فتابعوا بينهما، فإنهما يغسلان الذنوب كما يغسل الماء الدرن، وينفيان الفقر كما تنفي النار خبث الحديد)) وبعد:
فإن الحج وهو رحلة إلى الله بالروح والبدن، وهجر للأهل والمال والملذات، واحتمالٌ للمتاعب والمشاق، حباً لله وشوقاً إليه، واستجابة لندائه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج: 27].
وللحج قيمته التعبدية وآثاره الروحانية والتكاملية على النفس البشرية، ولا تتحقق تلك الآثار إلا باستلهام معانيه وقيمه الكامنة خلف الممارسات الشكلية، ولا تتأتى هذه المعاني والقيم إلا بالتفاعل مع كل لفظة ينطقها، أو حركة يعملها.
ومن خلال هذا الحوار حول مناسك الحج المتنوعة ندرك معانيه المتعددة، وقيمه السامية. روي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" أنه لما رجع من الحج استقبله أحد الحجاج (الشبلي) فقال له الإمام عليه السلام:
((حججت يا شبلي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقال عليه السلام: أنزلت الميقات وتجردت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال: نعم.
قال: فحين نزلت الميقات نويت أنك خلعت ثياب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟ قال: لا.
قال: فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك نويت أنك تجرّدت عن الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟ قال: لا.
قال: فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال: لا.
قال: فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت.
ثم قال عليه السلام: حين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحج نويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟ قال: لا.(1/2)


قال: فحين أحرمت نويت أنّك حرّمت على نفسك كل محرّم حرّمه الله عزّ وجل؟ قال: لا.
قال: فحين عقدت الحج نويت أنّك قد حللت كل عقد لغير الله؟ قال: لا.
قال له عليه السلام: ما تنظّفت، ولا أحرمت، ولا عقدت الحج.
ثم قال عليه السلام له: أدخلت الميقات، وصلّيت ركعتي الإحرام،ولبّيت؟ قال: نعم.
قال: فحين دخلت الميقات نويت أنّك بنيّة الزيارة؟ قال: لا.
قال: فحين صلّيت الركعتين نويت أنك تقرّبت إلى الله بخير الأعمال من الصلاة، وأكبر حسنات العباد؟ قال: لا.
قال له عليه السلام: ما دخلت الميقات ولا لبّيت.
ثم قال له: أدخلت الحرم، ورأيت الكعبة، وصلّيت؟ قال: نعم.
قال: فحين دخلت الحرم نويت أنك حرمت على نفسك كل غيبة تستغيبها المسلمين من أهل ملة الإسلام؟ قال: لا.
قال: فحين وصلت مكّة نويت بقلبك أنّك قصدت الله؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما دخلت الحرم، ولا رأيت الكعبة، ولا صلّيت.
ثم قال عليه السلام له: صافحت الحجر، ووقفت بمقام إبراهيم عليه السلام، وصلّيت به ركعتين؟ قال: نعم، فصاح عليه السلام صيحة كاد يفارق الدنيا بها، ثم قال عليه السلام: آهٍ آه، وقال: من صافح الحجر الأسود فقد صافح الله تعالى، فانظر يا مسكين ولا تضيّع أجر ما عظم حرمته، وتنقض المصافحة بالمخالفة وقبض الحرام، نظير أهل الآثام.
ثم قال عليه السلام: نويت حين وقفت عند مقام إبراهيم أنك وقفت على كل طاعة، وتخلّفت عن كل معصية؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فحين صلّيت ركعتين نويت أنّك بصلاة إبراهيم عليه السلام، وأرغمت بصوتك أنف الشيطان؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما صافحت الحجر الأسود، ولا وقفت عند المقام، ولا صلّيت فيه الركعتين.
ثم قال عليه السلام له: أأشرفت على بئر زمزم، وشربت من مائها؟ قال: نعم.
قال عليه السلام: نويت أنك أشرفت على الطاعة، وغضضت طرفك عن المعصية؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما أشرفت عليها، ولا شربت من مائها.(1/3)


قال عليه السلام: أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟ قال: نعم.
قال عليه السلام: نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما سعيت، ولا مشيت، ولا تردّدت بين الصفا والمروة.
ثم قال عليه السلام: خرجت إلى منى؟ قال: نعم.
قال عليه السلام: نويت أنّك أمّنت الناس من لسانك وقلبك ويدك؟ قال: لا.
قال عليه السلام:. فما خرجت إلى منى.
ثم قال عليه السلام له: أوقفت الوقفة بعرفة؟ وطلعت جبل الرحمة، وعرفت وادي نمرة، ودعوت الله سبحانه عند الميل والحجرات؟ قال: نعم.
قال عليه السلام: هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه، أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك، واطِّلاعه على سريرتك وقلبك؟ قال: لا.
قال عليه السلام: نويت بطلوعك جبل الرحمة أن الله يرحم كل مؤمن ومؤمنة، ويتولّى كل مسلم ومسلمة؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فنويت عند النمرة أنّك لا تأمر حتى تأتمر، ولا تزجر حتى تنزجر؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما وقفت عند العَلَم نويت أنّها شاهدة لك على الطاعات، حافظة لك مع الحفظة بأمر ربِّ السماوات؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما وقفت بعرفة، ولا طلعت جبل الرحمة، ولا عرفت نمرة، ولا دعوت، ولا وقفت عند النمرات.
ثم قال عليه السلام: مررت بين العَلمين، وصليت قبل مرورك ركعتين، ومشيت بمزدلفة، ولقطت فيه الحصى، ومررت بالمشعر الحرام؟
قال: نعم.
قال عليه السلام: فحين صليت ركعتين نويت أنها صلاة شكر في ليلة عشر تنفي كل عسر، وتيسر كل يسر؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما مشيت بين العَلمين، ولم تعدل عنهما يميناً ولا شمالاً، نويت أن لا تعدل عن دين الحق يميناً ولا شمالاً، ولا بقلبك، ولا بلسانك، ولا بجوارحك؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما مشيت بمزدلفة، ولقطت منها الحصى، نويت أنك رفعت عنك كل معصية وجهل، وثبت كل علم وعمل؟ قال: لا.(1/4)


قال عليه السلام: فعندما مررت بالمشعر الحرام نويت أنّك أشعرت قلبك إشعار أهل التقوى، والخوف لله عزّ وجل؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فما مررت بالعلمين، ولا صليت ركعتين، ولا مشيت بالمزدلفة، ولا رفعت منها الحصى، ولا مررت بالمشعر الحرام.
ثم قال عليه السلام: وصلت منى ورميت الجمرة، وحلقت رأسك، وذبحت هديك، وصلّيت في مسجد الخيف، ورجعت إلى مكة، وطفت طواف الإفاضة؟ قال: نعم.
قال عليه السلام: فنويت عندما وصلت منى، ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كل حاجتك؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوك إبليس، وعصيته بتمام حجك النفيس؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهرت من الأدناس، ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كيوم ولدتك أمك؟ قال: لا.
قال عليه السلام: أفعندما صلّيت في مسجد الخيف نويت أنّك لا تخاف إلا الله عزّ وجل وذنبك، ولا ترجو إلاّ رحمة الله تعالى؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما ذبحت هديك نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت بحقيقة الورع، وأنّك اتبعت سنّة إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحانة قلبه، وحاجة سنّته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلفه؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فعندما رجعت إلى مكة، وطفت طواف الإفاضة، نويت أنّك أفضت من رحمة الله تعالى، ورجعت إلى طاعته، وتمسّكت بودِّه، وأدّيت فرائضه، وتقرّبت إلى الله تعالى؟ قال: لا.
قال له الإمام زين العابدين عليه السلام: فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا ذبحت، ولا أدّيت نسكك، ولا صليت في مسجد الخيف، ولا طفت طواف الإفاضة، ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحج.
فطفق (الشبلي) يبكي على ما فرّط في حجّه، وما زال يتعلّم حتى حجّ من قابل بمعرفة ويقين)).(1/5)

1 / 20
ع
En
A+
A-