باب كيفية الإحرام وما ينعقد به
فصل في النية
وإنما ينعقد الإحرام بالنية - وهي قصد الدخول فيه ومحلها القلب، إلا أنه يستحسن التلفظ بها هنا، وكرهه البعض، وقد سبقه إلى الاستحسان الكثير من أعلام الهدى وفي السنة ما يفيد ذلك - مقارنة لتلبية ويكفي لبيك، أو تقليد للهدي. والمختار أن الإحرام ينعقد بالنية وحدها، وهو قول القاسم بن إبراهيم والمؤيد بالله والشافعي لعدم الدليل على اشتراط غيرها، وإن كانت التلبية واجبة ولو مرة لورود الأمر بها كما يأتي. والتقليد من سنن الحج، فيقول مستحضرًا بقلبه: اللهم إني محرم لك بالحج إن كان مفردًا، أو بالحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو بعمرة، إن كان متمتعًا أو معتمرًا فقط، حجة الإسلام أو الفرض إن كانت الفريضة، أو عن فلان إن كان عن غيره.
وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ما أحرم له من حج وعمرة. ومما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لبيك حجة وعمرة ))، وتلبية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي اتفقت عليها الروايات: (( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك )). وقد استحسن السلف أقوالاً كثيرة. قال الإمام زيد بن علي عليهما السلام في منسكه بعد قوله: (( اللهم إني أريد الحج فيسره لي...)). وقل: (( أحرم لك بالحج شعري وبشري ولحمي ودمي من النساء والطيب، أبتغي بذلك وجهك الكريم والدار الآخرة ومحلي حيث حبستني بقدرتك التي قدرت علي...)) ثم لبه وقل: (( لبيك اللهم لبيك...))، وذكر ما سبق. ثم قال: (( إن شئت أجزاك، وإن ألحقت لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك داعيًا إلى دار السلام لبيك، لبيك غفار الذنوب لبيك، لبيك بحجة تمامها وأجرها عليك...)) ثم قال: (( وأكثِر من يا ذا المعارج، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر ذكرها ويقول: (( لبيك يا ذا المعارج لبيك )).)).(1/26)


قلت: هذه رواية في زيادتها من الإمام الأعظم عليه السلام، إلا أنه يحتمل كونه كان يكثر ذكرها في التلبية للحج أم في غيرها. وأخرج أبو داوود عن جابر أن الناس كانوا يزيدون يا ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمع فلا يقول شيئًا.
وقال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في الأحكام فإذا اغتسلت فقل: ((اللهم إني أريد الحج رغبة مني فيما رغبت فيه منه لطلب ثوابك، وتحريًا لرضاك، فيسّره لي، وبلغني فيه أملي في دنياي وآخرتي، واغفر لي ذنبي، وامح عني سيئتي، وقني شر سفري، واخلفني بأحسن الخلافة في ولدي وأهلي ومالي ومحلي حيث حبستني. أحرم لك بالحج شعري وبشري ولحمي ودمي وما أقلت الأرض مني، ونطق بذلك لساني، وعقد عليه قلبي...)) ثم يقول: (( لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. لبيك ذا المعارج لبيك، وضعتْ لِعَظَمَتِكَ السمواتُ كنفيها، وسبَّحَتْ لك الأرض ومن عليها، إياك قصدنا بأعمالنا، ولك أحرَمْنا بحجنا، فلا تخيب عندك آمالنا، ولا تقطع منك رجاءنا...))
وفي الأحكام أيضًا: (( فإذا استويت على ظهر البيداء ابتدأت التلبية، ورفعت بها صوتك رفعًا حسنًا متوسطًا يسمع من أمامك ووراءك، وذكر التلبية الأولى...)) وزاد: (( لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت.)).(1/27)


قلت: اختلف في محل ابتداء التلبية، وقد أوضح ابن عباس رضي الله عنهما السبب في ذلك حيث قال : (( خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاجًا، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتين أهَلَّ، فسمع ذلك أقوام فحفظوا عنه.ثم ركب، فلما استقلت به ناقته أهَلَّ، فأدركه أقوام فحفظوا عنه، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتونه أرسالاً، فسمعوه حين استقلت به ناقته، فقالوا: إنما أهَلَّ حين استقلت به ناقته، ثم مضى فلما علا شرف البيداء أهَلَّ، فأدركه أقوام فقالوا: إنما أهَلَّ رسول الله عليه وآله وسلم حين علا شرف البيداء، ولعمر الله لقد أوجب في مصلاه، وأهَلَّ حين استقلت به راحلته، وأهَلَّ حين علا شرف البيداء.)) انتهى. فيسن كل ذلك.
وندب الجهر بالتلبية، في الجامع الكافي روى محمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قيل له: أي الحج أفضل قال : (( العج والثج )). وفي شرح التجريد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( أتاني جبريل وأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ))، أو قال: بالإهلال. وعن زيد بن خالد عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تأمر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنها من شعار الحج )). أخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان والحاكم، ولها طرق مستوفاة في البسايط.
وندب استمرار التلبية في الحج إلى رمي جمرة العقبة بأول حصاة. بذلك اتفقت الروايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي العمرة إلى استلام الحجر كما يأتي.(1/28)


وندب الاشتراط كما علّم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب لما قالت: يا رسول الله، إني أريد الحج، أَشْتَرِطُ؟ قال: نعم، قالت: فكيف أقول ؟ قال: (( قولي: لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني )). أخرجه الإمام المؤيد بالله في شرح التجريد. وقال: روى ذلك أبو داود في السنن، ورواه ابن أبي حاتم في المناسك، انتهى. وأخرجه الجماعة إلا البخاري عن ابن عباس، وفي رواية النسائي: (( فإن لك على ربك ما اشترطت ))، وهذا الشرط للتعبد، ولا يسقط به دم الإحصار لأنه ثابت بالدليل القطعي القرآني ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ?، ولا دلالة في الخبر على سقوطه.
فائدة: سمع في "ان الحمد" الفتح على تقدير لام العلة، والكسر على الابتداء أي الاستئناف، والوجهان مفيدان للتعليل، إلا أنها مع الفتح جملة، ومع الكسر جملتان.
فائدة أخرى: مَحِلي بفتح الميم وكسر المهملة، أي مكان إحْلالي.(1/29)


فصل في آداب التلبية وغيرها
قال في الأحكام: (( ثم يلبي ولا يفحش في تلبيته بشدة الصياح ولا يخافت بها، وكل ما علا من الأرض نشزًا قال: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر. وإذا انحدر لبّى، ولا يغفل التلبية الفينة بعد الفينة، ويتوب إلى الله من الخطيئة، ويحذر الرفث والفسوق والجدال والكذب، فإنه من الفسوق.)). وفي منسك الإمام زيد بن علي عليهما السلام: (( فعليك بتقوى الله وذكره كثيرًا، وقلة الكلام إلا في خير، فإن من تمام الحج والعمرة أن يحفظ الإنسان نفسه كما قال تعالى: ? فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ?...))، إلى قوله عليه السلام: (( فعليك بورع يحجزك عن معاصي الله تعالى، وحِلم تملك به غضبك، وحسن الصحبة لمن صحبك، ولا قوة إلا بالله.))
قلت: وروي مرفوعًا أنه إذا أشرف على وادٍ هلل وكبر، أخرجه الستة. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: (( كنا إذا صعدنا كبّرنا، وإذا نزلنا سبّحنا.)). وعن عبدالله بن عمر قال: (( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قفل من الحج أو العمرة، ولا أعلمه إلا قال الغزو، ويقول كلما أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثًا، ثم قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.))، أخرجهما البخاري. فلا التفات لما في جرار الشوكاني ولفظه: (( أقول: لم يرد في التكبير مطلقًا في هذه المواطن ما يصلح للتمسك به لا عند الصعود ولا عند غيره.))، انتهى. فإنْ كان عرف الرواية فهو افتراء، وإنْ جهلها فكان الواجب عليه أن يقول: لا أعلم. وكم له من أمثال هذه، ولسنا بصدد المجاراة ولكن للتنبيه، والله ولي التوفيق.
قال أئمتنا عليهم السلام: ويلبي في الأسحار وعقيب الصلاة ولو كان جنبًا أو حائضًا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة: (( واصنعي ما يصنع الحاج... ))الحديث.(1/30)

6 / 57
ع
En
A+
A-