فصل في امتثال ما عينه الموصي
ويجب امتثال ما عينه الموصي من: زمان أو مكان أو نوع أو مال أو شخص، وتختلف أحكام المخالفة.
فأما بتأخير في الزمان، فيجزئ في الفرض والنفل ويأثم إن كان لغير عذر، ولا تبطل الولاية بالتراخي، وبالتقديم يجزئ في الفرض لا في النفل.
وأما في المكان، فإن كان من أقرب إلى مكة أو مساوٍ لم يصح، وإن كان من أبعد صح بشرط أن يمر من ميل الموضع الذي عينه الميت أو نائبه ولو لغير عذر. وعند المؤيد بالله: يجزي وإن لم يمر.
فائدة: من استؤجر ليحرم بالحج من الميقات فأحرم بعمرة لنفسه وحج من مكة، لم يصح للمخالفة إلا أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه أجزى ولا دم عليه. وعند الإمام يحيى أنه يجزيه الحج من مكة ويلزم دم للإساءة.
وأما في النوع، فلا يصح. قال في البحر: ويحتمل أن يجزي إذا أتى بالأعلى، انتهى. وهو قول الفقيه علي إن كانت الإجارة واحدة أو تبرع بالزيادة ويأتي على الخلاف في أي الأنواع أفضل.
وأما في المال، فإن كان في العين أو الجنس أو الصفة فالمذهب أنه لا يجزي، ويضمن الوصي في الفرض والنفل إلا أن يعرف أن قصد الموصي مجرد التخلص عن الحج بذلك المال أو بغيره فإنه يجزي، وهكذا في سائر الواجبات وديون بني آدم على ما قرروه.(1/266)
فائدة: ما يتعين فيه النقد: يتعين النقد فلا يجوز إبداله في الهبة والصدقة والنذر والوصية والشركة والمضاربة والوديعة والغصب. فلو أبدله بغيره أثم، ولا يلزمه رد العين حيث خرجت من يده بل مثلها. هذا فلو تلف المال المعين بطلت الوصية، إلا أن يفهم من قصده تحصيل الحج والثلث متسع، أو أجاز الورثة. وهذا إن كان التلف على وجه لا يضمن، وإلا فيحج بالعوض. ومعنى قولهم: بطلت الوصية، أنه لا يجب التحجيج من باقي التركة، وأما الوصية فلا تبطل؛ فلو رضي الورثة أو تبرع الغير صح. قال الإمام عز الدين بن الحسن عليهما السلام: (( وكذا لو تلفت عين الأجرة قبل القبض بغير تفريط من الوصي وأتم الحج، رجع الوصي على التركة، فإن لم تكن له تركة ضمن من ماله لأنه غار للأجير.))، انتهى وقرر هذا للمذهب. وكذا إذا أوصى أن يقرأ على قبره بشيء من ماله ثم التبس موضع قبره، بطلت الوصية وقيل يقرأ في أي موضع. وأما إن كانت المخالفة في المقدار، فإن زاد كانت الزيادة من مال الوصي وصح التحجيج ، وإن نقص فقال أبو طالب: لا يصح ويضمن الوصي وهو المذهب. وعن الناصر والشافعي أنه يحجج عنه بالباقي في حجة أخرى من حيث تبلغ.
وأما في الشخص، الذي عينه فلا يصح ويضمن الوصي، إلا أن يعرف من قصد الموصي أن غرضه الشخص ذلك أو من يماثله صح. فإن امتنع المعيَّن أو مات، فقال الفقيه يحيى والفقيه علي: إن الوصية تبطل، وهو المذهب. وقال الفقيه حسن يحجج غيره، ورجّحه في البحر. ويتفقون أنه إذا عرف أن قصد الموصي الخلاص من الحج فقط أجزاه مطلقًا، وهو المقرر للمذهب.(1/267)
فائدة: لو قال الموصي: " حج عني بنفسك " ، فإذا أريد العقد الصحيح، فإن كانا وصيين عقد أحدهما للآخر، وإن كان واحدًا عقد له الحاكم. وإن قال: " حجج عني غيرك "، عمل به. فإن لم يصرح لا بالنفس ولا بالغير، فإن عرف قصده عمل به، وإن لم عمل بالعرف. فإن لم يكن شاهد حال ولا عرف، فالظاهر في قوله: حج عني، أنه أراد بنفسه، وفي قوله: حجج عني، أنه الغير. هذا حاصل ما قرروه للمذهب وهو واضح.(1/268)
فصل
فإن لم يعين الموصي شيئًا من ذلك، فيعمل في أنواع الحج بعرفه. ففي اليمن الإفراد. وكذا إن عين والتبس وإن لم يذكر الموضع فمن وطنه أو ما في حكمه، وهو المكان الذي مات فيه من لا وطن له أو المسافر في سفر الحج، فإن جهل أو لا وطن له فمن الميقات. ومن كان له وطنان أو أكثر فمن الأقرب إلى مكة. وفي البحر: (( مسألة: الهادي والناصر والمؤيد بالله وأبو حنيفة والشافعي: ومن صحت النيابة عنه أنشئت من وطنه، إذ وجب عليه منه فوجب إنشاؤه منه. المؤيد بالله: أو من مسامت له. أبو يوسف ومحمد: أو مما يمكنه الذهاب إليه والرجوع في يومه. أحد قولي المؤيد بالله وقولي الشافعي: بل الميقات إذ الحج يبدأ منه وما قبله ليس منه. قلنا: لا يتم إلا به فكان منه.)). قلت: وفيه نظر، والأقرب قول المؤيد. قال في الحواشي: وجه النظر أن الموصي لو حج من غير وطنه أجزاه، فكذا الأجير؛ انتهى.
قلت: فهذا خلاصة ما ذكروه في الإنشاء، ولا يخفى ضعف الاحتجاج على لزومه. والمختار أنه يلزم السير من حيث عينه الموصي، وإن لم يعين فمن وطنه أو ما في حكمه على ما مر، وذلك لأجل امتثال الوصية إن عين ولانصرافه إلى العرف إن لم يعين، ولهذا يفرق بين الوصية بالحجة والبلاغة. فلو استأجر المعذور المأيوس عن نفسه، أو حج أحد عن أبويه أو نحوهما بدون وصية، صح ذلك من أي مكان ولو من مكة المشرفة، والله ولي التوفيق.
فائدة: معنى الإنشاء: أن ينوي أن سيره عمن استؤجر له، وللأجير أن يستنيب بعد العقد من ينشىء عنه إلى موضعه ولو لغير عذر، ما لم يعين أنه لا ينشىء إلا هو.(1/269)
فصل
ويفعل الوصي في بقية الأمور التي لم يعينها الموصي حسب الإمكان. ففي الزمان في تلك السنة التي مات فيها أو بعدها، وفي المال إن بلغ ثلث ماله من وطنه أو ما في حكمه، وإلا فمن حيث يبلغ ولو من مِنى، وفي الشخص مَنْ جمع الشروط المعتبرة في الأجير للحج حسب الإمكان، ولا يحجج بكثير مع إمكان القليل واستواء الشخصين إلا أن يكون الشخص معينًا وامتنع، فيجوز إلى الثلث.(1/270)