فصل في الدماء التي لا بدل لها
ولا بدل لدماء المناسك والمجاوزة والإمناء والإمذاء ونحوهما وهدي القران، ومن طاف جنبًا أو حائضًا أو محدثًا أو وطىء بعد الرمي، وقد سبق الكلام على الجميع.(1/251)


فصل في أفضل أنواع الحج
في أفضل أنواع الحج، لم يتضح دليل يقطع النزاع على أفضلية أحد الثلاثة الأنواع، والذي صح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قرن، روي من بضع وعشرين طريقًا. قال عبدالله بن الحسين أخو الإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام: والصحيح عندنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرن، وكذلك علي والأئمة صلوات الله عليهم من أولادهما، وذلك أفضل سبيل الحج عندنا. وفي الشفاء ذكر الهادي والقاسم عليهما السلام أن القران أفضلها، وبه قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة، أفاد هذا في الضياء، ورواه في البحر عن أبي حنيفة والثوري وغيرهما. واختار بعض الأئمة تفضيل التمتع، ورواه في البحر عن علي عليه السلام وابن عباس والباقر والصادق وأحمد بن عيسى وإسماعيل وموسى ابني جعفر ومالك وأحمد والإمامية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي... )) الخبر ونحوه. فأسف صلى الله عليه وآله وسلم على ترك التمتع. قال في البحر: قلنا لا لفضله، بل لتألم الناس من مخالفته.(1/252)


قلت: وذلك واضح، وأما الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام فقوله وفعله يخالفها. وفي شرح التجريد وشرح الأحكام بالسند إلى عبدالرحمن بن أبي ليلى أن عليًا عليه السلام جمع بين الحج والعمرة، فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل، وأخرجه الدارقطني في سننه. وفي البخاري ومسلم اجتمع علي وعثمان، فكان عثمان ينهى عن المتعة فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول صلى الله عليه وآله وسلم تنهى الناس عنه؟ فقال له عثمان: دعنا عنك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك - يعني عليًا رضي الله عنه - أهلّ بهما جميعًا ولمسلم تراني أنهى الناس وأنت تفعله، فقال علي: ما كنت لأدع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لقول أحد. وفي رواية النسائي: فلم أدع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقولك.
قلت: وقوله ينهى عن المتعة: المراد بها هنا القران، فقد يطلق عليه ذلك. وينبغي أن تحمل عليه رواية من روى التمتع في حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفضيل التمتع إن صحت، ولهذا شواهد لا يسعها المقام.(1/253)


وأما رواية الجامع الكافي عن الحسن بن يحيى عليه السلام: أجمع آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن التمتع أحب إليهم من التجريد، فليس فيها إلا تفضيله على الإفراد، مع احتمال أن يكون أراد بالتمتع القران . ويدل على ذلك أن فيه عنه - أي الحسن عليه السلام - عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: أفضل الحج القران لمن ساق ثم التمتع ثم الإفراد، وهذا الاحتمال أيضًا في سائر الروايات عن أهل البيت عليهم السلام، ولا يبعد أن يختار بعضهم التمتع لكونه أخف من القران، وإن كان عنده أفضل. واختار بعضهم تفضيل الإفراد، وهو تحصيل الأخوين لمذهب الهادي عليه السلام إذا انضمت إليه عمرة بعد أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي وأصحابه، قال النووي في شرح مسلم أنه صح ذلك عن جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة قال: ومن دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أطبقوا على إفراده، واختلف فعل علي رضي الله عنه. قال: وأما الخلاف عن علي عليه السلام وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز... إلى آخره، أفاده في الروض.(1/254)


قلت: وقد قرروا هذا للمذهب، والراجح القران لأن الله سبحانه اختاره لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما صرحت به الروايات البالغة حد التواتر، وفيها أنه سبحانه وتعالى أمره أن يهلّ بحجة في عمرة. قال ابن القيم: (( وخبر من هو من أعلم الناس عنه صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين يخبر أنه أهلّ بهما جميعًا...))، إلى آخره وقد أفاد، وكان الصواب حذف "من" في التفضيل فهو المعلوم على الإطلاق والعموم. هذا واحتمال أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعله لبيان الجواز لا لفضله غير وارد، لإمكان البيان بالقول، ولأنه أشق أنواع الحج مع جمعه للنسكين ثم التمتع لإيجابه صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي وإن كان الوجوب خاصًا بهم على الصحيح كما سبق، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي. ))، وإن كان تطييبًا لنفوس أصحابه لما شق عليهم كما سبق، ولورود الروايات عن كثير من أهل البيت عليهم السلام باختياره، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/255)

51 / 57
ع
En
A+
A-