وقد حكى في الروض كلام الإمام الهادي عليه السلام في دم الإحصار، وكونه في الحج بمنى، وفي العمرة بمكة اختيارًا، وفي سائر الحرم اضطرارًا. قال: (( وجنح إليه في المنار بما حاصله أن سائر الحرم لم يقيموا برهانًا على محليته، وقد بين المحل في الآية فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الحج والعمرة في وقت الاختيار مطابقًا لقوله بأن المحل كل منى في الحج، وكل فجاج مكة في العمرة، وما نحره عام الحديبية فللعذر، وهذا وجه الجمع بين فعله في الحديبية وبين الآية الكريمة وبيانها، ويرجع بهما حينئذٍ إلى الاختيار والاضطرار...))، الخ وهو قويم، إلا أن قوله: (( كل منى في الحج ، وكل فجاج مكة في العمرة...))، لم أقف على هذا التخصيص في شيء من الأخبار، إلا أنه ذكر في شرح الأثمار ما لفظه: (( وفي الموطأ قال مالك بلغه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال بمنى هذا المنحر وكل منى منحر. وقال في العمرة: هذا المنحر يعني المروة، وكل فجاج مكة وطرقها منحر.))، انتهى. ففيه رايحة ولكنها غير واضحة في التخصيص، إذ قوله: في العمرة، ليس من لفظ الخبر مع أنه مرسل، وهو أشف ما يستند إليه في الفرق بين دماء الحج والعمرة كما هو المذهب. أما كون دم السعي حيث شاء فهو المذهب، قال في الضياء: (( ذكره محمد بن أبي الفوارس في تعليقه لمذهب الهادي، ونحوه في الوافي لمذهب الهادي أيضًا، وكذا دم طواف القدوم إذا لزمه بتركه. فقد أشار الشيخ أبو جعفر في الكافي أنه يهريقه في أي موضع شاء، كدم السعي عند القاسمية...))، قال في الضياء: (( لم أعرف وجه اختصاص هذين الدمين.))، انتهى. وفي شرح الأثمار بعد ذكر دم السعي: (( ولم أقف على دليله.))، انتهى. قلت: في شرح التجريد: (( ومن وجب عليه دم لنسيانه السعي أراقه حيث أحب، وهذا منصوص عليه في المنتخب. ووجهه أن وجوب الدم بمجرده لا يقتضي تخصيصه بمكان دون مكان...))، إلى قوله: (( والوجوه التي توجب كون النحر بمنى أو بمكة وجوه(1/246)
مخصوصة كلها، مرتفعة عن الدم الذي يجب لنسيان السعي...))، ثم ساق تلك الأوجه بما لا يسعه المقام، والمختار أنه كغيره من الدماء.
فائدة: ورد في خبر رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن ذيب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بالبدن ثم يقول: (( إن عطب منها شيء فخشيت عليها موتًا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك. )). وعن ناجية الخزاعي نحوه، وفيه: (( وخلّ بين الناس وبينه فليأكلوه. ))، رواه الخمسة إلا النسائي. قال الترمذي: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم في هدي التطوع؛ انتهى. والحكمة في غمس نعلها... الخ أن يعلم أنها هدي، وفي أنه لا يطعمه ورفقته أنه ربما وقع منهم تقصير في حفظها لو جاز لهم ذلك، وظاهره عدم وجوب الإبدال وإن لم تكن قد بلغت الحرم. وقد حمل على أن ذلك في النفل كما ذكره الترمذي، وقال العلامة الشرفي: (( أما إذا لم يتمكن من النحر في الحرم فيجوز في غيره، لما روي...))، وساق خبر ذيب قال: (( وظاهره يقتضي في الحرم وغيره، وحمله صاحب الشفاء على الحرم فقط. قال: فأما في غير الحرم فلا يجزي مطلقًا، ولا دليل على ذلك.))، انتهى. قلت: بل الدليل نحو قوله تعالى ? ثم محلها إلى البيت العتيق هديًا بالغ الكعبة ? إلا أن يقال: هذا خاص فيما تعذر مع صحته عند من يجيز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد وهم الجمهور. وأما المذهب فلا بد من الإبدال في الفرض كما سبق، والمقام لا يحتمل الزيادة. وقد طال البحث لقصد الإفادة، فمن كان من أهل النظر فالمجال واسع، وإلا فيكفيه فتوى من ذكر من أئمة الهدى.
فرع: وإذا ذبح الهدي في الحرم وتصدق باللحم خارجه فقد أجزاه الذبح ويتصدق بقيمة اللحم بالحرم، وإن لم يجد من يتصدق عليه بعد ذبحه فقد أجزاه مع عدم التمكن من بيعه، وإن تلف بعد ذبحه ضمن قيمة اللحم مع التفريط أو الجناية، وإلا فلا ضمان.(1/247)
فصل
وجميع الدماء الواجبة في الحج والعمرة لأجل الإحرام أو لغيره كدم المجاوزة وما لزم في صيد الحرم من رأس المال وإن لزمت في المرض لأنها جناية إلا دم القران والتمتع، حيث أوصى أن يحج عنه قرانًا أو تمتعًا. وأما إن حج قرانًا أو تمتعًا فمن رأس المال، وذلك حيث تلفت بعد السَوق في القِران، أو على القول بأنه نسك.(1/248)
فصل في المصارف
ومصرف الفداء والجزاءات والقيم والكفارات ودم الإحصار الفقراء المؤمنون غير الهاشميين كالزكاة، ولا يعطى الجازر منها إلا أن يكون مصرفًا غير أَجْره، ويجزي الصرف في واحد ما لم يبلغ النصاب. وأما دم القران والتمتع والتطوع فمن شاء من فقير أو غني، أو هاشمي أو غيرهم، غير الحربي والمحارب، وله الأكل منها إن نحرها في محلها لا في غيره، ولا يستغرقها بالأكل لقوله تعالى: ? فكلوا منها ? وهي للتبعيض، فإن أكل الكل ضمن ما له قيمة. وعند الشافعي: لا يأكل من هدي القران والتمتع لوجوبهما، والآية وفعله صلى الله عليه وآله وسلم حجة.(1/249)
فصل
ولا تصرف الدماء إلا بعد الذبح، فلو صرفها قبله لم يملكها الفقير، وكان له استرجاعها قبل الذبح وبعده. وأما الفوائد فيصح صرفها قبل ذبح أصلها، إلا أن تكون نتاجًا فبعد ذبحه. فلو أخر الصرف لغير عذر حتى تغير اللحم ضمن القيمة لا المثل، أي لا هديًا إذ قد أجزاه الذبح.
فائدة: من دفع الهدي قبل ذبحه إلى فقير، ووكَّله في ذبحه ثم صرفه في نفسه جاز. وللمصرف فيما صرفه إليه كل تصرف من أكل وهبة وبيع، وذلك التصرف بعد قبض أو تخلية مع تقدم التمليك أو رضاء المصرف. وليس للفقير أن يصرفها عن دم عليه إذ يشترط الذبح.
خاتمة البحث:
تلحق بهذا أربع مسائل:
الأولى: أنه إذا ذبح الهدي ولم يجد فقيرًا فقد أجزاه مع عدم التمكن من بيعه كم سبق.
الثانية: إذا تلف بعد الذبح بغير جناية ولا تفريط لم يضم
الثالثة: إذا كان متمتعًا أو قارنًا وأحصر أو بطل حجه، فهديه باقٍ على ملكه يفعل به ما يشاء
الرابعة: إذا اتفق قارنان أو متمتعان أو غير ذلك والتبس عليهم هدي بعضهم ببعض، وَكَّل كُلُّ واحد منهم صاحبه يذبح عنه بنية مشروطة عما لزمه إن كان هديه، وإلا فعن فلان وأجزاهم. وأما من فسد حجه وهو قارن أو متمتع فحكم الهدي باقٍ عليه لأنه يلزمه الإتمام.(1/250)