فمن جمع هذه الشروط وجاوز أثم مع العمد، ولزمه دمٌ مطلقاً، ولا بدل له. ولا يسقط عنه الدم إلا أن يرجع إلى الميقات قبل أن يحرم، وقبل أن يصل الحرم المحرم بكل بدنه. فإن جاوز وفاته الإحرام في عامه ذلك قضاه مع الاستطاعة، وفواتُه بطلوع فجر النحر سواء كان حجاً أو عمرة، ولا دم للتأخير. وينوي بإحرامه في القضاء قضاء ما فاته من الإحرام، ولا يداخل في هذا الإحرام غيره، فإن نواه عن قضاء ما فاته وعن حجة الإسلام أو عن نذر أو نحوه لم يُجْزه لأيهما، ووجب عليه أن يقضيهما ويضع إحرامه على عمرة أو حجة نفلاً، وإن نوى لأحدهما صح وبقي الآخر في ذمته. فأما لو أحرم بعد مجاوزة الميقات في تلك السنة فله أن يضع إحرامه على ما شاء من حجة الإسلام أو غيرها، وسواء كان قد رجع إلى أهله قبل أن يحرم أم لا. ولا يسقط عنه الإحرام حيث جاوز الميقات مريداً لدخول الحرم المحرم، ولو رجع واضرب كما لو مات، أفاده في الغيث. وعليه الإيصاء بحجة أو عمرة، وإن لم يحرم فقد لزمه الدم والإحرام على المذهب. وفي حاشية السحولي: لا يلزمه دم ولا إحرام.
فائدة: ويتكرر لزوم الدم والإحرام بتكرار الدخول كنزع اللباس، إلا أن يصير مع التكرار دائم الدخول والخروج. ويجب عليه الرجوع إلى الميقات والإحرام منه إلا لخوف أو لضيق وقت، فيحرم قبل الحرم وعليه دم المجاوزة. فإن أحرم من موضعه من غير عذر أثم، وسقط وجوب الرجوع ولزمه دم واحد... أفاده في الغيث.(1/21)
رواية الترخيص في الدم : هذا وفي شرح التجريد: وذكر أن القاسم عليه السلام روى عن أمير المؤمنين عليه السلام فيمن جاوزه: لا شيء عليه، فإن صحت الرواية لم يعدل عنها، وإلا فالأولى ما ذكرناه؛ انتهى. وفي أصول الأحكام عن علي عليه السلام فيمن جاوز الميقات فلم يحرم فلا شيء؛ انتهى. وفي شرح التجريد عن المنتخب أن من جاوز الميقات من غير أن يحرم فيه، وجب عليه أن يرجع ويحرم منه، فإن لم يمكنه الرجوع لعذر قاطع أحرم وراءه قبل أن ينتهي إلى الحرم. ويستحب أن يهرق دمًا... إلى آخره.
تنبيه: حكم المريد لأحد النسكين وغير المريد:(1/22)
اعلم أن المريد لأحد النسكين تحرم عليه المجاوزة للميقات إلى الحرم بغير إحرام إجماعًا. وأما من لا يريد أيَّهما ففيه خلاف؛ فعند الجمهور أنها تحرم المجاوزة على ما سبق تفصيله. وعند الصادق والإمام الناصر وأبي العباس من العترة وأخير قولي الشافعي أنها لا تحرم، ولا يلزم الإحرام إلا القاصد لأحد النسكين. استدل الأولون بقوله تعالى: ? وإذا حللتم فاصطادوا ?، ولم يتقدم ذكر الإحرام، فدل على أن المجاوزة إنما هي بإحرام. كذا في البحر وغيره، وفيه ما لا يخفى. وأجيب بأنه قد تقدم تحريم الصيد عليهم في قوله تعالى: ? غير محلي الصيد وأنتم حرم ? ولا إحرام إلا عن أحد النسكين، وأخبر بإباحته لهم إذا حلَّوا فلا دليل في الآية على المطلوب. واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يحل لأحد دخول مكة بغير إحرام ، ورخّص فيه للحطابين... رواه في الشفاء وغيره. قال ابن حجر في التلخيص، حديث ابن عباس أخرجه البيهقي من حديثه نحوه، وإسناده جيد. ورواه ابن عدي من وجهين ضعيفين، وأخرجه ابن أبي شيبة عنه بلفظ: لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا الحطابين والعمالين وأصحاب منافعها. وفي إسناده طلحة بن عمرو وفيه ضعف. وأجيب بأن المرفوع ضعيف، والموقوف اجتهاد، فلم يثبت دليل التحريم. واستدل المجيز بدخول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح بغير إحرام. وما في الأخبار من اختصاص الحل به صلى الله عليه وآله وسلم، فالمراد حِلُّ القتال كما هو ظاهر في السياق والألفاظ، لا المجاوزة فلم يجرِ لها ذكر، فهي باقية على الأصل، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر المسلمين الداخلين لحوايجهم إلى مكة المشرفة بالإحرام، كما في قصة الحجاج بن علاط وأبي قتادة لما عقر الوحش داخل الميقات وهو حلال. وأخرج في الموطأ أن ابن عمر جاوز الميقات غير محرم. وفي الجامع الكافي روى محمد بن منصور بإسناده عن محمد بن علي وعمرو بن دينار أنهما خرجا إلى أرضهما(1/23)
خارج الحرم، ثم دخلا مكة بغير إحرام. وروى فيه عن ابن عمر أنه دخل مكة بغير إحرام.
والحجة في فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقريره، وهو الذي يفيده مفهوم أخبار المواقيت كما في خبر ابن عباس رضي الله عنهما: ((وقّت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة...)) إلى قوله: (( ممن أراد الحج والعمرة ))، أخرجه الخمسة إلا الترمذي. وقول علي عليه السلام المروي في المجموع: (( ميقات من حج من المدينة أو اعتمر ذو الحليفة... )) إلى آخره. والأصل البراءة وإن كان الأحوط والأفضل هو الإحرام؛ هذا هو المختار.
فائدة: وجه لزوم الدم على من ترك نسكًا:
ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: (( من ترك نسكًا فعليه دم ))، رواه في الشفاء والانتصار. وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا: من نسي شيئًا من نسكه أو تركه مما بعد الفرايض فليهرق دمًا. قال أيوب: لا أدري قال ترك أم نسي، والمراد بالفرايض الثلاثة الأركان. وظاهر كلام المؤيد بالله في شرح التجريد حكاية الإجماع على لزوم الدم لمن ترك نسكًا وهذا هو أقوى ما يحتج به. فقد ظهر من السلف والخلف العمل عليه، والله تعالى أعلم.(1/24)
فصل في ما يحسن قبل الإحرام
يحسن قبل الإحرام، قلم الظفر، ونتف الإبط، وحلق ما يعتاد حلقه من الشعر، وهذا مستحب في الحج وغيره، ويسنّ الغسل ولو حايضًا أو جنبًا، ويتيمم غيرهما للعذر.
وفي الجامع الكافي قال محمد: (( وقلّم أظفارك، واحلق عانتك إذا احتجت إلى ذلك، وأفض عليك الماء، وليكن ذلك في وقت صلاة فريضة أو نافلة، ثم البس ثوبين جديدين أو غسيلين إزارًا ورداء.)). قال: (( فصل ركعتين أو ما تيسر لك، وإن صليت الفريضة أجزاك، ثم قل دبر صلاتك وأنت متوجه إلى القبلة...))، وذكر صفة الإهلال وستأتي. قال: (( وإذا اغتسلت لإحرامك فلا تلبس قبل أن تحرم ما لا ينبغي للمحرم لبسه، فإن لبست شيئًا جاهلاً أو ناسيًا فانزعه وأعد الغسل.)). وروى ذلك عن علي عليه السلام وعن أبي جعفر محمد بن علي عليهم السلام، وأوجب الناصر عليه السلام عليهم الغسل والأَولى عدم التفريط فيه. وقد ذكر استحباب ما سبق من التنظيف والغسل ولبس الثوبين الإمام زيد بن علي وأخوه الباقر عليهم السلام، والمروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه اغتسل لإحرامه ولبس ثوبين وأحرم عقيب صلاة الظهر، فإن أمكن ذلك فهو الأَوْلى، وإلا فبعد أي صلاة فريضة أو نافلة.(1/25)