وفي الجامع الكافي: وعن علي والحسن بن علي وابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي عليهم السلام أنهم قالوا: (( لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يحنط.))، انتهى. وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: (( إذا مات المحرم غسل وكفن وخمر رأسه ووجهه.))، وقد حمل على أنه بعد الرمي. وعلى كل حال العمل بالأول أحوط كما لا يخفى، وهو مذهب الإمام الهادي والشافعي خلاف أبي حنيفة ومالك والأوزاعي. نعم، ولا يتمم عنه إلا بوصية، ويبقى عليه حكم الإحرام ولو أتم عنه حيث أوصى.
فإن كان قد أحرم قبل زوال عقله وعرف ما أحرم له تمم به، فيقف به المواقف ويطوف به ويصلي عنه ركعتي الطواف ويسعى به ويرمي عنه كما سبق، يتولى ذلك الرفيق بنفسه أو يستأجر غيره، وإن لم تعرف نيته في إحرامه فكناسي ما أحرم له على التفصيل الذي سبق، ولا يتثنى ما لزمه من الدماء إلا أن ينكشف كونه قارنًا.(1/241)
فصل في أوقات الدماء وأماكنها
ولدم القِران والتمتع والإحصار والإفساد والتطوع بعد الإحرام، والمراد بالإحصار وما بعده في الحج وقتان : اختياري: وهو أيام النحر بلياليها ما عدا ليلة العاشر؛ واضطراري: وهو ما بعدها.
ويلزم لكل دمٍ أخره عن الاختياري دمٌ ولا يتكرر بتكرر الأعوام؛ وبتأخير بدنتي الإفساد في القران دمان.
روى الإمام زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم السلام أنه قال: (( أيام النحر ثلاثة أيام، يوم العاشر من ذي الحجة ويومان بعده في أيها ذبحت أجزاك.))، وله شواهد عن علي عليه السلام وابن عباس وعمر، وهذا هو المذهب، وقول للشافعي ووافقهم أبو حنيفة: إلا في دم الإحصار فلا زمان له عنده، وقول للشافعي آخر أنه يجزي دم الحج بعد الإحرام ولو قبل أيام النحر. واحتج في البحر بنحر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أيام النحر، وقد قال: (( خذوا عني مناسككم. ))، واعترض في المنحة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نحر هديه بمنى يوم النحر، قال: فالاختياري يوم النحر لا غير إلا أن يثبت نص، وأما حديث كل أيام التشريق ذبح ابن ماجه وابن حبان وغيرهما فإن صح كان هو الدليل، إلا أنه يدل على أن أيام التشريق كلها أيام النحر. قلت: نقل ابن القيم عن علي عليه السلام: أيام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده. ونقل عن الحسن البصري وعطا والأوزاعي والشافعي وابن المنذر.انتهى. قلت: وروي عن الإمام المنصور بالله في الأضحية قالوا: ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق ويحرم صيامها، فهي أخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع؟ أفاده في الروض. وقد سبق بالسند الصحيح عن علي عليه السلام، وفيه - وقد روى من وجهين يشد أحدهما الآخر - عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( كل منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح. ))، روي من حديث جبير بن مطعم وفيه انقطاع، ومن حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر. قال:(1/242)
وقد روى الحديث في مجمع الزوائد عن جبير بن مطعم، وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وغيره ثقات؛ انتهى. وذهب داود إلى أنه يوم النحر فقط لكونه مجمعًا عليه، وما عداه مختلف فيه، ويدفعه أن مجرد الاختلاف لا يدفع ما ظهر صحته من الأقوال. وذهب سليمان بن يسار وسلمة بن عبد الرحمن بن عوف إلى أن وقته ممتد إلى هلال المحرَّم واختاره ابن حزم، واحتج بأن الأضحية فعل خير وقربة إلى الله، وفعل الخير حسن في كل وقت، قال تعالى: ? والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير ?، فلم يخص وقتًا من وقت، ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يمنعه نص ولا إجماع إلى آخر ذي الحجة. وأجيب بأن المانع حديث جبير بن مطعم السابق، وإجماع السلف على عدم القول بامتداده إلى آخر شهر ذي الحجة، وإن اختلفوا في كونه جميع أيام التشريق أو بعضها. ولم ينقل مخالف لهم في ذلك قبل سليمان وسلمة . والعجب من ابن حزم في توسيع وقت النحر فأفرط، ومن إمامه داود في اقتصاره على يوم النحر ففرط، والدليل وأقوال السلف تخالف قولهما؛ انتهى باختصار. وليس هذا محل بسط، ولكن لأن البحث حقيق بالتأمل، هذا ولا توقيت لما عدا هذه الخمسة الدماء من كفارة أو فدية أو جزاء إذ لا دليل، ففي أي وقت نحرها أجزى بعد سبب وجوبها.(1/243)
فصل
واختياري مكان هذه الخمسة الدماء مِنى، لا ميلها، ذبْحا وصرفًا لقوله تعالى: ? حتى يبلغ الهدي محله ?، وقوله تعالى: ? ثم محلها إلى البيت العتيق ?، وقد بينه فعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحج والعمرة، كما سبق في الإحصار. وحدّ مِنى من العقبة إلى وادي محسر، وليسا منها وقد سبق. واختياري مكان دم العمرة مكة للآية، وحَدَّها من عقبة المريسي إلى ذي طُوى، ولا يدخل ميلها. وأما عمرة القران فكالحج في منى.
ولا زمان لدماء العمرة، سواء كانت عن إحصار أم إفساد أم تطوع أم فعل محظور أم ترك نسك أم تفريق طواف.
واضطراري دماء الحج والعمرة الحرم المحرم، ويلزم دم على المذهب كالزمان، فلو ذبح فيه لغير عذر لم يجزِ، ولا يجوز له الأكل منها. وعن الإمام المنصور بالله: يجزيه ذلك، وعليه دم كتأخيره عن زمانه، وقيل: قد أساء وأجزاه ولا شيء عليه. وقد استدلوا على هذا بنحره صلى الله عليه وآله وسلم هدي الإحصار عام الحديبية في طرف الحرم. وفي الشفاء عن الإمام زيد بن علي والإمام الناصر وأحد قولي الشافعي أن مكان الدماء الحرم المحرم، وهو كذلك عند أبي حنيفة وأصحابه إلا المحظورات. قلت: وظاهر الأخبار أن منى ومكة مكان للدماء كلها، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ومنى كلها منحر، وشعاب مكة كلها منحر. ))، رواه في الجامع الكافي وما في معناه، وقد سبق في ذكر عرفة. وأما المضطر ففي الحرم لفعله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية وإن كان في العمرة، فيقاس عليها غيرها. والظاهر عدم لزوم الدم إذ لم يؤثر أنه صلى الله عليه وآله وسلم فعله في الحديبية وهو في مقام التعليم.(1/244)
هذا والحرم المحرم مكان ما سوى دماء الحج الخمسة ودماء العمرة، من جزاء الصيد ودماء المحظورات وصدقاتها وما يلزم من ترك نسكًا من دم أو صدقة. وعلى الجملة فما عدا دماء الحج الخمسة، ودماء العمرة، من دم أو صدقة أو قيمة، فموضع ذبحها وصرفها الحرم المحرم إلا الصيام ودم السعي في الحج. وأما في العمرة فلا يجبره الدم إلا لتفريقه فحيث شاء ، ويستثنى من الصوم صوم التمتع والإحصار، فله زمان ومكان كما سبق. وقد استدلوا على أن الحرم مكان ما ذكر بقوله سبحانه: ? ثم محلها إلى البيت العتيق ?، يعني البدن التي سبب وجوبها الإحرام، فكذلك سائر الدماء التي وجبت لأجل الإحرام، كذا قاله في الغيث، أفاده السيد العلامة أحمد بن محمد الشرفي في الضياء، قال: (( والقيمة والصدقات مقيسة عليها، وسائر الحرم له حكم البيت العتيق، واختصاص دماء الحج الخمسة، ودماء العمرة بمنى ومكة، لدليل خاص من فعله صلى الله عليه وآله وسلم وقوله كما تقدم...)) ثم أفاد ما معناه أنه إن كان الدليل الآية فهي تفيد أنه اختياري لا اضطراري... إلى آخر كلامه.
قلت: وأقوى ما تمسكوا به في الحرم نحره صلى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية في أطراف الحرم، ولكنه حال اضطرار، وقد أقاسوا عليه ما سوى الخمسة ودم العمرة في حال الاختيار، وكان قياسها على الخمسة أوضح.(1/245)