فصل في تعريف الإحصار
الإحصار هو عن السعي في العمرة، أو عن الوقوف في الحج لا بعد الوقوف، فيبقى محرمًا حتى يمضي وقت الرمي كله وحل من إحرامه إلا النساء، ولو طال زمن الحصر حتى يطوف للزيارة. وعند الشافعي: من أُحصر بعد الوقوف جاز له التحلل، فيحل له النساء. وعند الحنفية: لا حصر في الحرم، فمن عرض له فيه أحد الأسباب لم يجز له أن يتحلل، بل يبقى بحاله حتى يفوته الحج أو يفعله إن تخلص. والمعتبر في جواز التحلل في العمرة أن يغلب على ظنه أن لا يزول المانع حتى تمضي مدة يتضرر ببقائه محرماً، أفاده في الفتح وهو المقرر. وعند مالك: لا حصر في العمرة إذ لا يخشى فواتها، وأجيب عليه بأن إحصار الحديبية عن العمرة. والمحصر عن الحج من يغلب على ظنه فوت الحج.
فمن أحصره عن السعي، أو بعضه ولو قلّ، في العمرة، أو الوقوف في الحج:
حبس، أو مرض، أو خوف، أو انقطاع زاد، بحيث يخشى على نفسه التلف أو الضرر
أو انقطاع مَحرم ؛ فلو أحصر محرمها وقد بقي بينها وبين الموقف دون بريد لم يجز لها الإتمام من دونه، إلا أن لا يبقى إلا ما يعتاد مفارقة المحرم في السفر في مثله، وأقرب ما يقدر به ميل مع الأمن على ما قرر. ولا يجب على المرأة أن تزوج ابنتها أو أمها ليحصل المحرم على المذهب
أو أخّره مرض من يتعين عليه أمره، كأحد الزوجين مع الآخر، أو رفيق أو بعض المسلمين، وخشي عليه التلف أو الضرر إن لم يكن معه من يقوم به، فيجب عليه أن يقف معه، والزوجة أخص من المحرم، والأمة أخص منهما سواء كانت فارغة أم لا، ولا يصح تعيين غير الأخص، ولا يجوز إلا أن يعرف أن المحرم مثلا أرفق من الزوجة مع يمينه إن طلبت، فإن تعدد من ذكر فله أن يعين من شاء، فإن لم يمكنه التعيين فالقرعة،(1/226)


أو أحصرها حدوث عدة، كحرة طلقت، أو مات زوجها، أو فسخ بعد الإحرام، فالواجب عليها أن تعتد حيث وجبت ولو لم يكن بينها وبين مكة أو الجبل إلا دون ميل، إلا لخوف أو عدم ماء ، بخلاف منزلها فإنها ترجع إليه إن لم يكن إلا دون بريد ولو قد أحرمت،
أو أحصره منع زوج أو سيد لهما ذلك حيث لم ينقض الزوج أو السيد أو المحصر الإحرام، وإنما يجوز لهما المنع من الإتمام إن كان الإحرام متعدى فيه كالإحرام بالنافلة قبل مؤاذنة الزوج. وفي حكم التعدي أن تحرم بحجة الإسلام ولا محرم لها، أو امتنع وهي جاهلة لامتناعه وكونه شرطًا، وأما إذا لم يجز لهما المنع لم يصيرا محصرين بمنعهما باللفظ، ولا يتصور إحصار بفعل محظورات الإحرام، فأما إن كان المنع بالوعيد الذي يقتضي الخوف أو الحبس فيصيران محصرين ولو لم يجز للزوج والسيد ذلك ، ويلحق بمنع السيد لعبده كل من طولب بحقٍّ عليه، كالمطالب بالدين الحال وهو مليء،
أو أحصرته حاجة أبويه للإنفاق ولو لم يعجزا عن الكسب إن كان له مال،
فأما ضيق الوقت فهو وإن كان محصرًا به لكنه يتحلل بعمرة، ولا يجزي التحلل بالهدي إلا عند تعذر العمرة، ويلزمه دم لفوات حجه،
أو أحصره عدم معرفة الطريق، فيتحلل بالصوم لتعذر إنفاذ الهدي،
أو أحصره مطالبة الإمام له،
أو منع المستأجر للأجير الخاص.
فائدة: الإحصار بالعدو المشرك مجمع عليه لنزول الآية فيه، وعند الشافعي أنه لا يكون الإحصار إلا بالعدو. وروي عن ابن عباس احتجاجًا بالآية، وأجيب بأن العام لا يقصر على سببه. قال الإمام زيد بن علي عليهما السلام في تفسيره: (( وقوله تعالى: ? فإن أحصرتم ? معناه بحرب أو مرض أو غير ذلك...))، وعلى هذا أئمة العترة عليهم السلام إذ المراد مطلق المنع، كما هو حقيقة الإحصار على الصحيح.(1/227)


فمن أحصر بأي تلك الأسباب بعث بهدي - شاة أو سُبع بقرة أو عُشر بدنة - سواء كان قارنًا أم غيره وجوبًا إن أراد التحلل، وإن بقي محرمًا فلا يجب إلا أن يخشى الوقوع في المحظور وجب. والدليل على وجوب الهدي قوله تعالى: ? فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ?، وهذه الصيغة ظاهرة في الإيجاب كقوله تعالى: ? فعدّة من أيام أُخر ?، وكقوله تعالى في آية الأذى: ? ففدية من صيام ? الآية في آيٍ كثيرة، ولفعله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، وهو قول أمير المؤمنين وابن عباس والعترة والفريقين وغيرهم. وقال مالك: لا يجب.
نعم وإن كان أجيرًا فهو عذر له في استئجار غيره لإتمام العمل، لكنه لا يتحلل إلا بالهدي أو الصوم أو العمرة كسائر المحصرين. وأما العبد فيصوم.(1/228)


وإذا بعث بالهدي عين لنحره وقتًا معلومًا من أيام النحر في الحج، وأما العمرة فلا وقت له بلا خلاف، فإن لم يعين تعينت أيام النحر ولا يتحلل إلا بعدها. فلو عيّن غيرها؛ فإن كان قبلها لم يصح، وإن كان بعدها صح ولزم دم التأخير. وعند أبي حنيفة أن دم الإحصار لا يختص بزمان، بل يصح في أي وقت شاء. ولا يصح إلا في محله عند من يشترط المكان، وهم الجمهور لقوله تعالى: ? حتى يبلغ الهدي محله ?. وعند الشافعي أنه يصح أن ينحره في موضع إحصاره، وحمل الآية على الزمان، واحتج بنحره صلى الله عليه وآله وسلم دم إحصاره عام الحديبية، وظاهر السياق في الآية يدل على أن المراد المكان، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ? هديًا بالغ الكعبة ?، وقوله تعالى: ? ثم محلها إلى البيت العتيق ?، وأما نحره صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية فإنما هو للعذر. واختلفوا في المكان، فقال الإمام زيد بن علي والناصر عليهم السلام وأبو حنيفة: إنه كل الحرم اختيارًا، وقال الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام: محله في إحصار الحج منى، وللمعتمر مكة اختيارًا، وفي سائر الحرم اضطرارًا، وهذا هو المذهب. ورجّحه المقبلي في المنار وقال ما حاصله: (( قد بين المحل في الآية فعله صلى الله عليه وآله وسلم في الحج والعمرة في وقت الاختيار، وأما نحره صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية فللعذر، وهذا وجه الجمع بين فعله في الحديبية وبين الآية الكريمة وبيانها، ويرجع بهما إلى الاختيار والاضطرار...))، أفاده في الروض. وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم نحر عام الحديبية في طرف الحرم، وسيأتي الكلام في الدماء.(1/229)


هذا، فيحل بعد ذلك الوقت، بمعنى أنها تحل له محظورات الإحرام، ولا يحل إلا بفعل شيء من محظورات الإحرام بنية التحلل. ويستحب له إن كان فوضه أن يؤخر نصف النهار وإلا فلا، لأنه لو أخّر بدون تفويض صار فضوليًا، فلا يصح ولا يجوز له التحلل إلا مع غلبة الظن أنه قد ذبح، وتحصل بسلامة الطريق وعدم بلوغ عائق، هذا عند الإمام زيد بن علي والناصر والقاسمية. وعن الفقهاء لا بد من العلم وفيه حرج وقد لا يمكن، وقد تأول لهم الإمام يحيى بأن المراد الظن القوي.(1/230)

46 / 57
ع
En
A+
A-