فصل في حكم من فسد إحرامه بالوطء
ومن فسد إحرامه بالوطء لزمه خمسة أحكام، سواء كان الإحرام لحج أو لعمرة أو لهما، أو إحرامًا مطلقًا.
الأول: الإتمام كالصحيح إلا طواف الوداع كما سبق، فإن خرج من إحرامه لم يصح، وإن أخلّ بواجب أو فَعَل محظورًا لزمه ما يلزم في الصحيح، فلو تكرر منه الوطء لزمته بدنة لكل مرة. وذكر ابن أبي الفوارس للهادي عليه السلام أنه لا يتكرر في الوطء إلا أن يتخلل التكفير، وحكاه السيد يحيى للمذهب والمذهب الأول، وهذا الخلاف في الوطء. فأما سائر المحظورات فكما تقدم، ولا يصح قياس الحج على سائر العبادات، فإنه لا يلزم إتمام فاسدها لأنه فاسد الاعتبار لمخالفة النص، ولأن إلحاقه بالوطء في نهار رمضان أولى، وقد روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (( إن فجر ظهركَ فلا يفجر بطنُكَ. ))، فأمره بإتمام ما أفسد، وفي هذا رد على ابن حزم ومن تبعه، والعجب من استدلاله بقوله تعالى: ? إن الله لا يصلح عمل المفسدين ? وأين هذا من معنى الآية، ولا يسع الحال المجاراة.
فرع: وحكم الأجير إذا فسد حجه كغيره، فيلزمه إتمامه لنفسه، فإن كانت السنة معينة استأجر الوصي أو الورثة إن لم يكن وصّى من يحج عن الميت الأجير المذكور بعد التوبة إن كان عمدًا في السنة الثانية أو غيره مطلقاً، ولا قضاء عليه، ومتى كانت الإجارة صحيحة فلا أجرة له، وإن كانت فاسدة أو ذكرت المقدمات استحق لما قبل الفساد، وإن كانت السنة غير معينة فهي في ذمته وليس لهم الفسخ.
الثاني: أنه يلزمه بدنة، وهي اسم لما ينحر من الإبل ذكرًا أو أنثى، وإن كان قارنًا فبدنتان ولو بعد السعي في العمرة لأنه ينعطف الفساد، وفي البحر: المراد إذا فسد قبل سعي العمرة كما تقتضيه أصول المذهب. قلت: والمقرر للمذهب الإطلاق.(1/221)
تنبيه: وإنما أوجبوا البدنة وإن كان في الخبر السابق ورواية الإمام زيد بن علي عن علي عليهم السلام الهدي، وهو مطلق يصدق بالشاة والبدنة، لأنه ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام تعيين البدنة؛ رواه في شرح التجريد عن ابن أبي شيبة بسنده عن علي عليه السلام قال: (( على كل واحد منهما بدنة.))، مع أنه الظاهر من قوله عليه السلام: (( وينحر كل واحد منهما هديًا.))، إذ النحر خاص بالإبل، وسبقت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما. وفي المجموع عن الإمام زيد بن علي عليهما السلام: (( من قضى المناسك كلها إلا الطواف بالبيت الحرام ثم واقع أهله فسد حجه، وعليه الحج من قابل وعليه بدنة.)). وروى أبو جعفر عن الإمام زيد بن علي والناصر وأبي حنيفة وأصحابه: شاة. قلت: والرواية السابقة عن الإمام أصح.
فإن لم يجد البدنة في الميل فعدلها صيام مائة يوم متتابعة، فإن لم يستطع فإطعام مائة وخمسين صاعًا، والمراد التمليك أينما ورد في الحج، قياسًا على الجزاء في القدر، وعلى الظهار في الترتيب، إذ هو في الجزاء مخير هذا على المذهب. وعن ابن عباس والشافعي: بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه، ثم يطعم بقيمة البدنة، ثم يصوم عن كل مد من قيمتها يومًا.
الثالث: قضاء ما أفسد فورًا. أما الفرض فبالإجماع وليس بقضاء حقيقة، وإنما المعنى أن الحج المفروض باقٍ عليه، وأما النفل ففيه خلاف ربيعة وداود، وقوله في الخبر السابق: اقضيا نسكًا، وقول أمير المؤمنين عليه السلام: وعليهما الحج من قابل عام.(1/222)
ولا تلزم نية القضاء، ولا تشترط الاستطاعة فيه، ولا يجب القضاء على الأجير، خلاف الإمام يحيى عليه السلام، ويقضي كما فات إفرادًا وقرانًا وتمتعًا إن كان الفساد بعد الإحرام بالحج، حيث كان ناذرًا بالتمتع في سنة معينة، أو أجيرًا، أو لم يعين عليه عام الحج، وإلا فلا يلزمه إلا قضاء الحج لأنه قد خرج من العمرة على المقرر، وإن فسد القضاء قضى الأول لا الثاني، قالوا: لئلا يؤدي إلى التسلسل، فإن نوى قضاء الثاني لم يسقط الواجب.
الرابع: أنه تلزمه بدنة الإفساد لزوجة أو أمة أو مغلوط بها مع جهلها أكرهها وبقي لها فعل، ويلزمه أيضًا ما لا يتم قضاؤها إلا به من الفدية التي لا يتم القضاء إلا بفعل موجبها كتغطية الوجه لعذر، وإلا فعليها والزاد والراحلة وأجرة المَحرم إن وجد، وإلا وجب عليه العزم بمن يصح له السفر بها، فإن أخرجت هي الكفارة رجعت بقيمتها عليه إن نوت الرجوع، ولا يحتاج هو إلى إذنها إن أخرجها على المذهب. فإن أخرجت هي البدنة، أو أطعمت لتعذر الصوم وأخرج هو بدنتها جاهلاً لإخراجها، فلا ترجع عليه لأنه معذور مع الجهل، فإن كفّرت بالصوم فلا رجوع . فأما لو لم يبقَ لها فعل فلا فساد عليها وعليه بدنتها، فإن أكرهت الزوج لزمها ما يلزمه، فإن كانا مكرَهين معًا فعلى المكرِه لهما، لكن إن بقي لهما فعل أخرجا الكفارة ورجعا على المكره، وإن لم يبقَ لهما فعل فيخرجها هو، ولا يجب عليهما الإخراج. وعند السيد يحيى: لا يفسد حج المكرَهة، وعند الإمام محمد بن المطهر: أن النسيان غير مفسد في حق الزوج، ورجّح اشتراط العمد في الفساد الجلال والأمير.
فائدة: إن أفسد قارن على قارنة لزمه سبع بدن؛ واحدة التي ساقها في هذا الحج الذي أفسده، وأربع للإفساد، واثنتان للقضاء، والثامنة التي ساقتها أولاً، وإن تمرد الزوج عن إخراج بدنتها لم تلزمها على المذهب. وفي البحر: أنها تلزمها وترجع عليه، ولا تسقط عنه بموته ولا موتها.(1/223)
فائدة: لو وطىء أجنبية فالأقرب أنه لا يلزمه ما يلزم الزوج لأنه يلزمه الحد، ولا يجتمع غرمان في ماله وبدنه . وأما إن وطىء أجنبية غلطًا فيلزمه ما يلزم الزوج إن أُكرِهت، ومتى سقط عنه بلزوم الحد وهي مكرهة، فأما الزوج فتلزمه نفقة سفر فقط لا البدنة ولا المؤونة على المذهب.
فائدة: العبرة بمذهب الزوج المكرِه في قدر فدية الإفساد، إذ الوجوب عليه. وعند أبي طالب وأبي حنيفة والمزني: أن مؤونة الزوجة على الزوج وإن طاوعت وكذا بدنتها، عند أبي حنيفة ومحمد وعند الإمام يحيى بدنتها عليها وإن أكرهت، إذ لم يفصل الدليل. وأجاب في البحر: بأنه فصل القياس، وفيه: ولا يفسد حج نائمة ومجنونة ومكرهة لا فعل لهن وإن لزمت البدن، قال: والوجوب عليه، فلا يفتقر إلى إذن منهن، ولو أخرجن لم يجزه والعكس حيث لهن فعل ويرجعن عليه إن كفرن؛ انتهى.
مسألة: ولا يصح القضاء للحج في عامه لوجوب إتمامه، وعند أصحاب الشافعي: يصح حيث أحصر ثم تحلل بالهدي، ثم يزول الحصر قبل الوقوف، فله أن يحرم بالقضاء إذ قد انحل الأول، ولا يصح عندنا لوجوب الإتمام إن أدرك الوقوف، ولأنه لا يتحلل قبل أيام التشريق.(1/224)
الخامس: وجوب التفرق في السنة التي فسد فيها، وفي سنة القضاء من حيث فسد الإحرام حتى يحلا بطواف الزيارة. ومعنى التفرق: أن لا يخلو بها في محمل واحد أو منزل واحد، أما إذا كان معهما غيرهما جاز، ولا بأس أن يَقْطُر بعير أحدهما إلى الآخر. وليس في الاجتماع إلا الإثم، فإن خشي عليها من الافتراق جاز الاجتماع على المذهب. وقد دل على هذا الحكم كلام أمير المؤمنين عليه السلام السابق، وهو يفيد أن عليهما أن يحرما للقضاء من حيث أفسدا ولو قبل المواقيت، وهو الراجح. وعند أهل المذهب: لا يجب الإحرام إلا من الميقات، ولا يجب الافتراق في القضاء إلا بعد الإحرام بالاتفاق، وهو قول أمير المؤمنين وابن عباس وأكثر العترة والفقهاء. وعند الإمام يحيى وبعض الفقهاء: ندب فقط. وعند أبي حنيفة: لا يجب ولا يندب. قالوا: والحكمة في التفرق أن للأمكنة تأثيًرا في الدعاء والتشوق لما فعل فيها كما قال:
وحبب أوطان الرجال إليهمُ
مآرب قضّاها الشباب هنالك(1/225)